للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[رسائل الأصدقاء]

من بركات الأدب

. . . عدت أمس صديقاً أنهكه رس المرض حتى أذواه. فما ترى إذا رأيت، سوى أعظم ناتئة تهم أن تخرج، ولا تسمع إذا سمعت غير أنين خافت موجع كأنه ودع الجسم للروح. فتلقاني بابتسامة كأنها الزهرة الذابلة، وبدمعة كأنها اللؤلؤة اللموع، وأدناني من سريره وبكى، فواسيته بالأحاديث، وخففت عنه بالأهازيل، فلم يسكن اضطرابه، ولا خفت آلامه.

ثم رأيته يتململ في فراشه حيران، ويشير إلى صدره أسوان، ويقول: (إني لأحس ههنا سكيناً تمزق وتخرق. أفلا ترقيني؟. . .)

فقلت لنفسي: (هذا أول الهذيان ثم يتبعه الجنون!) وقلت له: (ومتى عهدتني، عافاك الله، صاحب رقية، أرقي بها الناس لتسألني ما سألت، وتسترقيني؟)

قال: (سألتك بالله وبودك بي أن ترقيني. لقد كان أبوك شيخ المقرئين، وكان رجلاً مباركاً كأنه ملك كريم؛ وجدك كان شيخاً صالحاً، لم تشغله تجارته الواسعة عن التقوى ثم إن الولد سر جده وأبيه!)

وارتبكت، ورأيته يمسك بيدي فيذرف دمعة، فتساقط عليها فتلذعني، ثم يضعها على صدره ويغمض عينيه

وتكلفت الجد والوقار، وهممت أن أقرأ له، ولكن مرت على خاطري خطرة بارعة، فوجدتني أردد على مهل قطعة لصديقي (الزيات) عن الربيع، كنت حفظت فقرأ منها:

(. . . هذا ربيعكما يا فتاتي الفاتنة، ويا طفلتي الجميلة: صفاء من سلام النفس يفيض بشراً في العين وطلاقة في الوجه؛ ورواء من ألق الشباب يشع نوراً في السماء وسروراً في الأرض؛ وخاء من نعيم الطبيعة ينشر عطوراً في الجو وزهوراً في الروض؛ وانتشاء من رحيق العيش يشيع لذة في الحس وبهجة في القلب؛ وهدهدة على أرجوحة الحب تذهب مع الأمل الباسم وترجع مع الرضى السعيد؛ واتحاد الجمال البشري بالجمال الإلهي الماثل في وشاء الحقول وأفواف الخمائل وأعطار النسيم وألحان الطير وأنفاس الأحبة. فأين بالله ربكما أجد الفرق بينكما وبين ملكين يعتنقان في نشوة الخلد ويأتلقان في وضاءة الفردوس؟ أفي النظرة الساهمة، أم في البسمة الحالمة، أم في الفتنة النائمة، أم في الحنو الخليق

<<  <  ج:
ص:  >  >>