للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من ظرفاء العصر العباسي:]

أبو دلامة

توفي سنة ١٦١ هـ

للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

- ٤ -

وما ترك المنصور أبا دلامة يتدلل محققاً له كثيراً من رغباته إلا لأنه كان يحب العبث به وسماع نوادره، ولا يريد أن ينقطع عنه: بل كان يحاول أن يجعله قريباً منه في مقره. وكان كلما سأل عنه قيل له: أنه في بيوت الخمارين لا فضل فيه. فعاتبه على انقطاعه عنه. فقال أبو دلامة: إنما أفعل ذلك خوفاً أن تملني. فعلم أنه يحاجزه فأمر الربيع أن يوكل به من يحضره الصلوات معه في جماعة في الدار. فلما طال ذلك عليه قال:

ألم تريا أن الخليفة لزَني ... بمسجده والقصر مالي وللقصر!

فقد صدني عن مسجد أستلذه ... أعللُ فيه بالسماع وبالخمر

وكلفني الأولى جميعاً وعصرها ... فويلي من الأولى وعولي من العصر

أصليهما بالكَرْه في غير مسجدي ... فما لي من الأولى ولا العصر من أجر

يكلفني من بعد ما شبت توبةً ... يَحطُ بها عني المثاقيل من وزري

لقد كان في قومي مساجدُ جمةٌ ... ولم ينشرح يوماً لغشيانها صدري

ووالله مالي نية في صلاته=ولا البرُ والإحسان والخير من أمري

وما ضره - والله يغفر ذنبه=لو أن ذنوب العالمين على ظهري؟

فبلغته الأبيات فقال: صدق، ما يضرني ذلك، والله لا يصلح هذا أبداً، فدعوه يعمل ما يشاء.

وقد لا ترضى عن هذا التساهل صادراً من الخليفة المنصور، إذ تراه يدع أبا دلامة وشأنه فلا يعاقبه على تهاونه بشعائر الدين أو على اعترافه بشرب الخمر وإتيان المنكر: ولكنك تغفر للمنصور كثيراً من تساهله إذا حاولت أن تعرف كيف كان فهمه لأبي دلامة: كان يفهمه على أنه مخلوق لابد منه ليسد في هذه الدنيا فراغاً لا يسده إلا أمثاله من الظرفاء، وأن هؤلاء كثيراً ما يطغى هزلهم على جدهم فليس من الحكمة أن تحمل كل بادرة منهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>