إن أمام التاريخ اليوم رجفة من رجفات الهول والهلاك لم يبتلَ بمثلها الإنسان منذ دحا الله هذه الأرض. فهل يستطيع مهما سبر أغوار النفس، وكشف أسرار المجتمع، ورصد أطوار الحوادث، أن يقول فيها أكثر مما يقول في العواصف والزلازل والبراكين والأوبئة؟
هل يستطيع التاريخ بفلسفته وحذلقته أن يفسر لنا وللأجيال كيف تسنى لخمسة نفر من عباد الله الضعاف، لا هم آلهة ولا هم أبالسة، أن يسيطروا على الشعب الألماني الضخم وهو آية في النبوغ البشري في العلم والأدب والفلسفة والفن فيشلوا تفكيره، ويلغوا إرادته، ويمسخوه قطيعاً جراراً من أفيال جهنم ترمي العالم كله محاربيه ومسالميه بالبوار والدمار، أو بالفزع والمجاعة!
لو كانت هذه النازية الهتلرية قائمة في سلطانها وطغيانها على مبدأ من مبادئ الخير، أو مذهب من مذاهب الإصلاح، لالتمسنا لخضوع الشعب الألماني لها واضطراب العالم الإنساني بها مساغاً في العقل أو مثلاً من التاريخ؛ ولكنها ضلالة من ضلالات العصبية والعنصرية والأثرة والغرور استبدت بفكر ثائر وعقل حائر وهوى طموح، فظنها الفوهرر رسالة من رسالات الله أوحاها إليه في كتاب (كفاحه)، وأوجب أداءها عليه بقوة سلاحه؛ فهي شريعة تنسخ كل كتاب غير كتاب هتلر، وتمحو كل سيادة غير سيادة النازي، وتمحق كل عنصر غير عنصر الجرمان. وإذا كان في الساميين وهم في رأيه حثالة الناس رسالات ورسل، فكيف لا يكون على الأقل في الآريين وهم خلاصة الأجناس رسالة ورسول؟
ولكننا عرفنا إله الناس الذي أصطفى من الساميين موسى وعيسى ومحمداً ليبلغوا رسالات الهدى والحق والخير، فألفوا نوافر القلوب بالحب، وأقاموا قواعد المجتمع على العدل، وخففوا متاعب العيش بالإحسان، وضمنوا وفاء العهود بالذمة، وجعلوا الناس كلهم سواسية في حق الحياة لا يطغي جنس على جنس، ولا يبغي قوم على قوم. فمن هو يا تُرى إله الألمان الذي أصطفى من الآريين هتلر وجورنج وهيس وريبنتروب ليبيدوا أمم العالم، ويدمروا حضارة الدهر، ويحطموا روائع الإنسان، ويستبدلوا بشرائع الله وقوانين الضمير سياسة لا تعرف براً بوعد ولا وفاء بعهد ولا ثباتاً على مبدأ؟