جبران (دمعة وابتسامة) كان رؤوفاً بالناس محباً للناس، راحماً ضعفهم، مشفقاً على بؤسهم، وهو - وإن يكن في نزعاته هذه مقلداً - فقد عبر عن عاطفة صحيحة صادقة لم تدنسها الأرض. فهو مؤمن بالعدل السماوي والرحمة المتغلغلة في كل جزء من أجزاء الكون، ولكن جبران الإنسان أفسد على جبران الهادئ هدوءه، وقلقه الحسي عمل قلقه الروحي. . . فالفقر والهجرة وموت الأعزاء والخيبة، كلها عوامل تألبت على جبران فخنقت فيه جبران الهادئ، ووترت أعصاب جبران القاسي، ومن يطفئ مثل هذه الثورة إلا خمرة (نيتشه) يتناولها بيد (زرادشت)؟
خلقت خمرة (نيتشه) عواصف جبران، وقد أثبت الناقد تأثير نيتشه في (العواصف) وهو تأثير لمن يرى؛ وعندي أن هذا التأثير مهما أحاطت به عوامل هذا الفيلسوف فهو لا يخلو من تأثير روح جبران الباطنية التي تمثلت أن الناس كانوا سبب خيبتها، فكرهتهم، لأن في كراهيتها انتقاماً لها منهم.
قد كان - في طوايا جبران - زرادشت راقداً، فأيقضه زرادشت نيتشه. . . وألهبه بروحه، وهتف به ليكون هداماً مثله، دافناً للأموات الأحياء!
لا يرضى النعيمي عن كل هذا التمرد ولا بعضه، لأنه لا يعرف للتمرد غاية. . . وإنما أظهر رضاه عنه في (غرباله) لأنه كان نفثة صادقة من فتى التفت إلى لباب الحياة، أو طفل صاح صيحة الحياة، برغم القابلة الواقفة على كل طفل يولد لتحول بينه وبين صيحته بالخنق أو بالسحق: هتف جبران برغم ذلك هتاف المرارة والحرقة، فوجد الناقد في هتافه تحرقاً للمجهول، فرضى عن هذا التحرق وإن لم يرض عن هذا التمرد. . . فنظر - كما قال جبران - إلى مستقبله لا إلى ماضيه، وأدرك الناقد أن هذه الثورة النفسية هي ثورة لم يخل منها فنان أو شاعر، وأي حجر ينزل في القاع بدون دوائر وأمواج. وهذه الثورة هي علامة الحياة. . .