للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٧ - دفاع عن البلاغة]

الذوق

يكثر ترداد كلمة (الذوق) في البلاغة، كما يكثر ترداد كلمة (العقل) في الفلسفة. ذلك لأن حاسة الذوق هي أداة الفن، كما أن ملكة العقل هي أداة العلم. فمن لا يذق لا يدرك الجمال، كذلك من لا يفقه لا يعرف الحق. ولم تؤتَ البلاغة إلا من فساد الذوق فيمن يكتب أو فيمن يقرأ. ولم أجد فيما أثر من أدبنا، ولا فيما نقل إلى لغتنا، كلاماً يفيد طالب البلاغة في موضوع الذوق على ما له من بليغ الأثر في إنشاء العمل الفني وصحة تقديره ودقة نقده. لذلك لم أر من الفضول، وأنا في مقام الدفاع عن البلاغة، أن أحاول تجلية هذا المعنى بمقدار ما يحسن الاستطراد في موضوع يؤديَّ على الطرف الأقصى من الإيجاز

ما هو الذوق؟ والذوق حاسة معنوية يصدر عنها انبساط النفس أو انقباضها لدى النظر في أثر من آثار العاطفة أو الفكر. وقديماً فطن الناس إلى الشبه بين الذوق الحسي الذي يميز بين الطعوم، وبين هذا الذوق المعنوي الذي يحكم في نتاج الفنون. وما أظنهم وقفوا بوجه الشبه بين هاتين الحاستين عند طبيعة الإدراك، وإنما تعدوا به إلى قابليتهما للكمال والنقص، واختلافها بين الناس باختلاف الزمان والمكان والخلق والمادة على أن التنوع والتغير والاختلاف في الذوق الحسي أضعف وأقل، لأن مجاله محدود؛ وأدراك المادي قريب، واستيعاب المحدود ممكن، وفعل الطبيعة والبيئة في تطوير الغرائز بطئ لا يكاد يحس. أما الذوق المعنوي فمجاله ما يعجب وما لا يعجب من أعمال النفس والذهن. والمعجب وغير المعجب من هذه الأعمال أمور لا تزال تتأثر بعوامل الزمن والإقليم والجنس والتربية والثقافة والحضارة والطبقة والسن؛ وكلما التبست هذه الأمور التبس الذوق الذي يسيرها ويدبرها ويفرق بينها ويحكم عليها. فالذوق الحسي مرجعه إلى الطبيعة وللطبيعة طريقة واحدة؛ والذوق المعنوي مرجعه إلى العادة وللعادة طرق متعددة. وإذن لا يمكن الظفر بذوق عام تصدر عنه أحكام الناس على الأعمال الفنية، فإن ما يعجب الحضري قد لا يعجب البدوي، وما يطرب المصري قد لا يطرب الأوربي؛ فرقص (ببا) خزي عند الغربيين، وغناء (جانيت) نهيق عد الشرقيين. وفي الغالب نرى الشيء الواحد يثير الاستحسان في نفس والاستهجان في أخرى. فكيف نجعل الذوق أذن ميزاناً في البلاغة

<<  <  ج:
ص:  >  >>