إن للذوق مصدرين يستمد منهما الحكم في جميع قضاياه: الأول العقل المتزن، وهو يحكم في التناسب والقصد والترتيب والعلائق المشتركة بين السبب والنتيجة، أو بين الطريقة والغاية. والذوق المستمد من هذا المصدر له ما للعقل من الوضوح الذي يشرق في كل نفس مهذبة؛ وقواعده كقواعد العقل لا تتغير لأنه ثابت مطرد. والفنان الذي أوتي ثقوب الذهن يكون في مأمن من الزيغ إذا اتبع قواعد الفن لأنها وضعت على هذا الأساس المكين
والمصدر الآخر هو العاطفة، وهي الشعور الواقع على النفس مباشرة من طريق الحواس. وهنا كان مجال الاختلاف وسبب التباين؛ لأن الحقيقة في الفنون غير الحقيقية في العلوم: هي في العلوم محصورة مضبوطة، ولكنها في الفنون منتشرة مبسوطة؛ ومن ذلك كان التدرج من الحسن إلى الأحسن، ومن الفائق إلى الممتاز. ولم ينشئ هذه الفروق إلا هذا الذوق العاطفي الذي يتولد من الصفات والعادات والحوادث فيجعل الحقيقة الفنية تختلف في نفسها من شعب إلى شعب، ومن قرن إلى قرن، حتى لتختلف في المكان الواحد، وفي الزمان الواحد، وفي الإنسان الواحدة، تبعاً لحالات العواطف وانطباعات الحوادث واختلافات الميول
ضع نموذجا أمام مائة طالب ليرسموه، ثم انظر بعد ذلك فيما عملوا تجد الرسوم كلها تتشابه لأول وهلة؛ فإذا أطلت فيها النظر لا تجد رسمين منها يتشابهان، لأن الذوق الخاص بكل راسم جعل الصور تختلف في حقيقتها، وإن لم تختلف في جوهرها وطبيعتها
لا بد للذوق إذن من استمداد العقل والعاطفة كليهما في تكوين حكمه: هذا بمقتضى المنطق السليم، وتلك بمقتضى الشعور الحاصل. ومرجع كل حكم من أحكام الذوق إلى القاضي الأعلى وهو الطبيعة. وللطبيعة، والحمد لله، قانون نافذ على كل كائن. وقد كان للناس قبل أن يوجد الفن ذوق معنوي خلقته الطبيعة فيهم كما تخلق الغرائز؛ وكان لهذه الحاسة من ميلها ونفورها قاض يحكم على كل شئ فلا يخطئ حكمه. فلما ظهر الفن لم يعارض الطبيعة ولم يناقضها، وإنما حسنها وزينها وعمل أحسن مما عملت باتباع طريقتها واقتباس وسيلتها وملاحظة تطورها إن الفنان كلما دنا من الطبيعة كان أنقى وأصدق. أنظر إلى أدب الجاهليين من العرب والإغريق تجد أظهر خصائصه الحقيقية والسذاجة والوضوح. ذلك