للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لأن البدوي أو الهمجي يمتاز بقوة بصره وحدة سمعه؛ وإن حاسته المعنوية التي تتصل بعينه وأذنه تمتاز كذلك بوضوح الإدراك وصدق الحساسة. وإذا كان ذوقه أضعف من ذوق المتمدن في التحليل والتحديد والتمييز، فإنه ثابت غير مضطرب، خالص غير مشوب. لقد اخترع البدوي المجازات البيانية والصور الخطابية قبل أن ينشأ الفن ويوضع البيان. ولقد كان إذا ما ضرم النوى أنفاسه، وأرمض الهوى نفسه، يخاطب الغياب ويظنهم يسمعونه، ويكلم الأطلال والأموات ويعتقد أنهم يفهمونه. أسمعه حين تصيبه مصيبة فيشكو، أو تسعفه صنيعة فيشكر، أو تمسه إهانة فينتقم، تجده قد شعر بأثر ذلك في نفسه كل الشعور، وإدارة بالعبارة الملائمة أصدق الأداء، فلا يوارب ولا يبالغ ولا يتكلف. لأن الطبيعة صادقة لا تعرف التمويه، صريحة لا تقبل الرياء.

وهل تنتظر من رجل لا يقول إلا ليعبر عما في نفسه أن يقول غير ما في نفسه؟ وكيف يجازف بالألفاظ حين يصف وهو لا يصف إلا ما أثر في قلبه أو وقع تحت حسه؟ فليت شعري هل نستطيع أن نكون اليوم كالبدو طبيعيين نستلهم الواقع ونستوحي الطبيعة! اليقين الذي لا ريب فيه أننا لا نستطيع، لأن حياتنا قد أصبحت من التركيب والتعقيد والتصنع بحيث لا تجد غريزة على جبلتها، ولا عادة على طبيعتها، ولا عاطفة من عواطف الناس على أصلها وحقيقتها. فنحن نتغزل من غير حب، ونمدح من غير عاطفة، ونصف ما لم نر، ونقص ما لم يقع، ونتقمص في القصص أشخاصاً خياليين أو حقيقيين فنتكلم بلسانهم، ونشعر بشعورهم. فكيف نستطيع في هذه الأحوال أن نجد العبارة والحرارة اللتين يجدهما البدوي أو الهمجي، من دون كد ولا معانات؟ لقد جعلنا الطبيعة بالتصنع فناً، فينبغي أن نجعل الفن بالتطبع طبيعة.

(للكلام بقية)

احمد حسن الزيات

<<  <  ج:
ص:  >  >>