أميركا. . الدنيا الجديدة. . ذلك العالم المترامي الأطراف الذي يشغل من أذهان الناس وتصوراتهم، أكثر مما تشغل من الأرض رقعته الفسيحة، وترف عليه أخيلتهم وأحلامهم بالأوهام والأعاجيب، وتهوى إليه الأفئدة من كل فج، شتى الأجناس والألوان، شتى المسالك والغايات، شتى المذاهب والأهواء
أمريكا. . تلك المساحات الشاسعة من الأرض بين الأطلنطي والباسيفيكي. تلك الموارد التي لا تنضب من المواد والخامات، ومن القوى والرجال. تلك المصانع الضخمة التي لم تعرف لها الحضارة نظيراً. ذلك النتاج الهائل الذي يعيا به العدو الإحصاء، تلك المعاهد والمعامل والمتاحف المنثوثة في كل مكان. عبقرية الإدارة والتنظيم التي تثير العجب والإعجاب. ذلك الرخاء السابغ كأحلام الجنة الموعودة. ذلك الجمال الساحر في الطبيعة والوجود والأجسام. تلك اللذائذ الحرة المطلقة من كل قيد أو عرف. تلك الأحلام المجسمة في حيز من الزمان والمكان. .
أمريكا هذه كلها. . ما الذي تساويه في ميزان القيم الإنسانية؟ وما الذي أضافته إلى رصيد البشرية من هذه القيم، أو يبدو أنها ستضيفه إليه في نهاية المطاف؟
أخشى ألا يكون هناك تناسب بين عظمة الحضارة المادية في أمريكا، وعظمة (الإنسان) الذي ينشئ هذه الحضارة؛ وأخشى أن تمضي عجلة الحياة، ويطوى سجل الزمن، وأمريكا لم تضف شيئاً - أو لم تضف إلا اليسير الزهيد - إلى رصيد الإنسانية من تلك القيم، التي تميز بين الإنسان والشيء، ثم بين الإنسان والحيوان
إن كل حضارة من الحضارات التي مرت بها البشرية، لم تكن كل قيمتها فيما ابتدعه الإنسان من آلات، ولا فيماسخره من قوى، ولا فيما أخرجت يداه من نتاج. إنما كان معظم قيمتها فيما اهتدى إليه الإنسان من حقائق عن الكون، ومن صور وقيم للحياة؛ وما تركه هذا الاهتداء في شعوره من ارتقاء وفي ضميره من تهذيب، وفي تصورة لقيم الحياة من عمق، والحياة أنسا نية بوجه خاص، مما يزيد المسافة بعداً في حسابه وحساب الواقع، بينه وبين