للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[المجنون]

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

جاء يمشي هادئاً يتخيَّلُ في مِشْيته، يَرْجُفُ بين الخُطوة والخطوة كأنه من كِبره يُشعرك أن الأرض مُدركة أنه يمشي فوقها. . . . ولا ينقلُ قدمَه إذا خَطَا حتى يَنْهضَ برأسه يُحركه إلى الأعلى، فما تدري أهو يريد أن يطمئنَّ إلى أن رأسَه معه. . . . أم يُخَيَّل إليه أن هذا الرأس العظيم قد وضع على جسمه في موضع راية الدولة فهو يهزُّه هزَّ الراية. . . .

وأخذته عيني وليس بيني وبينه إلا طولُ غرفةٍ وعرضها - فهو إذا زائغُ البصر كأنما واقع في صحراء يقلَّب عينه في جهاتها متحيَّراً متردِّداً، ثم كأنما رُفِعَ له في أقصاها جبَلٌ فأخذ إلى ناحيته. . . . .

ورحبتُ به، وأجلستهُ إلى جانبي، فأخذ يَسْتَعَرِفُ إليَّ بذكر أسمه وجماعته وبلده، لا يزيد على ذلك شيئاً كأنه عنترةُ بني عَبسٍ، لأرضه من طبيعتها جغرافياً، ومن أسمه جغرافياً على حدة. فلما رآني لا أُنْبِتُه معرفة قال: أن بك نسياناً قلت: وكثيراً ما أنسى، غير أن أسمك غير من ذلك الأسماء التي تذكّر بتاريخ.

قال: هذه غلطة الجرائد. . . ومهما تنسَ من شيء فلا تنسَ أنك أستاذاً (نابغة القرن العشرين). . .

فسرَّحتُ فيه نظري، فإذا أنا بمجنونٍ ظريفٍ أمردَ أهيفَ، يكاد برخاوته وتفككه لا يكون رجلاً، ويكاد يبدو امرأة بجمال عينيه وفتورهما.

وتوسمتُ فإذا وجه ساكن منبسطُ الأسارير ممسوح المعاني، ينبئ بانقطاع صاحبه مما حوله، كأن الدنيا ليست دنيا الناس، ولكنها دنيا رأسه.

وتأملت فإذا طفولة متلبدة قد ثبتت في هذا الوجه لتخرج من بين الرجل والطفل مجنوناً لا هو طفل ولا رجل.

وتفرَّستُ فإذا آثارُ معركةٍ باديةٍ في هذه الصَّفحة قَتْلاها أفكارُ المسكينِ وعواطفُه.

وتبَّينتُ فإذا رجلٌ مُستَرْخٍ، مُتفتّرُ البدن، خائرُ النفس، وكأنه قائم لِتَوَّه من النوم فلا تزال في عينه سِنَةٌ، وكأنه يتكلم من بقايا حُلُم كان يراه. . .

وخُيِّل إليَّ من هذا الخُمول في هذا الشاب أن عليه جوَّا من تثاؤبه وان المكان كله يتثاءبُ،

<<  <  ج:
ص:  >  >>