فلما رأى ذلك مني ضحك وقال: أن (نابغة القرن العشرين) رجلٌ مغناطيسيّ عظيم؛ فها هو ذا قد ألقى عليك النوم. . . وحسبُكَ فخراً أن تكون أستاذَه وأخاه وثقتَه، (فليس على ظهرها اليوم أديبٌ غيري وغيرك. . .).
قلت في نفسي: إ تا لله، ما يعتقد الرجلُ أن على ظهرها مجنوناً غيره وغيري، وكأنما ألمَّ بذلك فقال: لستُ مجنوناً، ولكني كنت في البيمارستان. . .
قلت: أهو البيمارستان الذي يسمى مستشفى المجاذيب؟
قال: لا. إن هذا الذي تسميه أنت هو مستشفى المجاذيب، أما الذي سميتُه أنا فهو مستشفى فقط. . .
وذكرتُ عندئذٍ أن من المجانين قوماً ظُرفاء يَدخُلُهم الفسادُ في عقولهم من ناحية فكرة ملازمة لا تبرح، فلا يكون جنونُهم جنوناً إلا من هذا الوجه، وسائر أحوالهم كأحوال العقلاء، غير انهم بذلك طيَّاشون متقلبون، إذا ازْدُهِىَ أحدُهم لم يُطقْهُ الناس من زهوه وكبريائه وتنطُّعِه، كأنه واحدُ الدنيا في هذه الفكرة وكأن بينه وبين الله أسراراً؛ ويظن عند نفسه انه اعقلُالناس في أرقى طبقات عقله، وما جنونُه إلا في هذه الطبقة وحدها.
ومثل هذا لا بد له ممن يستجيبُ لهذَيانه كيما يحركَ فيه خفتَه وطيشَه وزهوه وليكونَ عنده الشاهدَ على هذا الوجود الخياليِّ المُبدَع الذي لا يوجد إلا في عقله المختل. فإذا هو ظفر بمن يُحاسنُه، أو يصانعُه، أو يجاريه حَسبَِه مُذْعِناً مؤمناً مصدِّقاً، فلا يَدَعُه من بعدها ويتعلق به اشد التعلق، ويراه كأنه في ملكه. . . فيتخذه صفيَّاً وهو يعتقد انه رقيق؛ وقد يَزُعمُه أستاذَه لِيُفهِمَه من ذلك بحساب عقله. . . أنه تلميذُه.
وخشيتُ أن يكون (نابغة القرن العشرين) لم يُسمِّني أستاذَه إلا بحسابٍ من هذا الحساب، فهو سيُعطى الأستاذيةَ حقَّها، ولكن كما هو حقّها في لغة جنونه. . . فأصبح في رأيه تلميذه وصنيعتَه، ومحدِّثَ هذيانه، وثقتَه وملجأه، والمحاميَ من ورائه؛ قلت في نفسي: إذا أنا تركتَه جالساً كان هذا المجلسُ مَثابَتَه من بعد فلا يعرف له محلاً غيره ويصبح كما يقال في تعبير القانون (محلّه المختار)، فَيتَطَرَّأُّ إليَّ لسبب ولغير سبب، ويقعُ في أوقاتي وقوعَ السَّهوِ لا حسابَ عليه ويضيعُ فيه ما يضيع. فأجمعتُ أن أصرفَه راضياً باليأس وقد انتهت