وفي عصر الحاكم بأمر الله تدنو أساليب الخلافة الفاطمية، وتدنو شخصية الخلفاء الفاطميين من ذروة الخلفاء؛ وكما أن الدعوة السرية الشيعية لقيت على يد الخلافة الفاطمية أعظم مظاهر ظفرها الديني والسياسي، فكذلك تلقى الدعوة السرية الفاطمية في عصر الحاكم بأمر الله أغرب مظاهرها، وأشدها إمعاناً في الغموض والخفاء؛ وفي هذه الفترة بالذات ينفجر بركان الدعوات السرية التي لبثت تضطرم قبل ذلك بأكثر من قرن، وتحقق بعض غاياتها العملية بصور جريئة مروعة
ولقد كانت شخصية الحاكم بأمر الله مثال الخفاء ذاته؛ ولم تكن مظاهر الغموض والتناقض التي تنتاب هذه الشخصية الغريبة في كثير من المواطن، لتحجب مظاهر القوة المادية والمعنوية التي تتمتع بها في أحيان كثيرة، بيد أنا نلاحظ أن الخفاء يغمر هذه المظاهر جميعا، سواء في فترات قوتها أو ضعفها. كان الحاكم ذهناً هائماً، يشغف بنظريات الخفاء والعالم الآخر، وينكب على دراسة التنجيم والفلك، ويهم في ميدان المباحث الفلسفية والروحية؛ وكان هذا الخفاء المروع يصحب الحاكم في حياته الخاصة، وفي تصرفاته العامة، في أقواله وأعماله؛ وأي خفاء أشد من ذلك الذي تنفثه حولها شخصية ترتفع في سماء التفكير حتى لتزعم السمو فوق البشر، وتهيم في دعوى الألوهية، وتنحط مع ذلك في بعض نزعتها وتصرفاتها إلى نوع من الجنون الغامض؟ لقد يجرؤ الدعاة في كثير من المواطن على انتحال الرسالة أو النبوة، وقد يزعم المشعوذون المغامرون أنهم يتمتعون بمواهب خارقة، ولدينا من هؤلاء وهؤلاء ثبت حافل في جميع العصور والأمم، بل إنا لنراهم ينبثون في القرن الثامن عشر في المجتمعات الأوربية يزاولون السحر والتنجيم، ويعتصمون بأذيال الخفاء والروع؛ ولكنا لا نعرف مثلا عملياً ذهب فيه الداعي إلى انتحال الألوهية، وأثمرت فيه الدعوة ثمرتها العملية كمثل الحاكم بأمر الله
احتشد الدعاة السريون بمصر في عصر الحاكم، وازدهرت الدعوات السرية، واتخذت سبلا ومظاهر شتى؛ وكان المجتمع القاهري يعيش في الواقع على هامش تلك الدعوات الغريبة