وروى مخارق أن أبا العتاهية جاءه فقال: قد عزمت على أن أتزود منك يوماً تهبه، لي فمتى تنشط؟ فقلت متى شئت! فقال: يكون ذلك في غد؛ فجئته فأدخلني بيتاً له نظيفاً، ودعا بطعام وفاكهة فأكلنا، ودعا بألوان من الأنبذة فقال اختر ما يصلح لك منها، فاخترت وشربت، ثم صب قدحاً وقال: غنني في قولي:
أحمدٌ قال لي ولم يَدرِ ما بي ... أتحب الغداة عُتبَةَ حقاً
فغنيته، فشرب قدحاً وهو يبكي أحر بكاء، ثم قال: غنني في قولي:
ليس لمن ليست له حيلةٌ ... موجودةٌ خيرٌ من الصّبر
فغنيته وهو يبكي وينشج، ثم شرب قدحاً آخر، ثم قال: غنني فديتك في قولي:
خليلي ما لي لا تزال مضرتي ... تكون مع الأقدار حتماً من الحتم
فغنيته إياه؛ وما زال يقترح على كل صوت غنى به في شعره، فأغنيه ويشرب ويبكي، حتى صارت العتمة، فقال أحب أن تصبر حتى ترى ما أصنع، فجلست، فأمر ابنه وغلامه فكسرا كل ما بين يدينا من النبيذ وآلته والملاهي، ثم نزع ثيابه واغتسل، ثم لبس ثياباً بيضاء من صوف، ثم عانقني وبكى، ثم قال: السلام عليك يا حبيبي وفرحي من الناس كلهم، سلام الفراق الذي لا لقاء بعده؛ وجعل يبكي، فانصرفت وما لقيته زماناً
وروى أبو سلمة الغنوي أنه قال لأبي العتاهية: ما الذي صرفك عن قول الغزل إلى قول الزهد؟ فقال: إذن والله أخبرك، إني لما قلت:
الله بيني وبين مولاتي ... أهدتْ لي الصد والْملاَلاَتِ
منحتها مهجتي وخالصتي ... فكان هجرانها مكافأتي
هَيَّمني حبها وصَيّرني ... أحدوثة في جميع جاراتي
رأيت في المنام في تلك الليلة كأن آتياً أتاني فقال: ما أصبت أحداً تدخله بينك وبين عتبة يحكم لك عليها بالمعصية إلا الله تعالى، فانتبهت مذعوراً، وتبت إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغزل