فإذا كانت هذه الروايات كلها في حادثة واحدة فهي متضاربة متدافعة ينقض بعضها بعضاً؛ وإذا كان الرشيد هو الذي كان يأخذ على أبي نؤاس اندفاعه في اللهو ويحاسبه على ذلك في شعره، ويحبسه عليه مرة بعد مرة ويزج به في سجنه، فكيف يتفق هذا مع ذلك المسلك الذي كان يسلكه مع أبي العتاهية، وهو لم يكن أرق غزلاً من أبي نؤاس ولا غيره من جمهور الشعراء الذين كانوا يلتفون بالرشيد، وكان لهم من رقيق الغزل ما يغنيه عن غزل أبي العتاهية؟ وليس هذا وذاك كل ما يعنينا من هذه الروايات، بل يعنينا منها أيضاً أنها لا تصل بنا إلى غور نفس أبي العتاهية وصلتها بتلك النزعة الصوفية التي صارت أليها، وقد كان في ظاهر أمره أبعد الناس منها، فلا تبين لنا تلك الروايات إلا أنها حالة طرأت عليه في بغداد، ولا تتصل إلى سابق أمره بصلة، وتردها الرواية الأخيرة إلى تلك الرؤيا المنامية السابقة، وهي إذا صحت لا تكفي وحدها في الأخذ به إلى كل ما أخذ به من ذلك الغلو في أمره؛ فإذا أمكننا أن نصل إلى هذه النواحي الغامضة من أمر أبي العتاهية أمكننا أن نفهم من أمره ما لم يفهمه الناس منه إلى الآن. وسنجلو من أمر ذلك ما نحتاج إليه هنا، ونترك ما بقي من ذلك إلى موضعه من هذه الدراسة لأبي العتاهية، ليكون لنا منها دراسة منظمة لا يسبق شيء منها على موضعه ولا يتأخر عنه
وإنه ليهمنا في الأول أن ننفي ما يفيده ظاهر تلك الروايات من أن تلك النزعة الصوفية في أبي العتاهية كانت نزعة طارئة عليه في بغداد، والحقيقة أنها كانت نزعة قديمة عنده، وأن أمرها يرجع إلى مبدأ أمره بالكوفة، وأنه كان يخفي ذلك في نفسه ليظهر به في الفرصة التي يكون له فيها أثره في الناس جميعاً، لا في نفسه وحده. ودليلنا في هذا هذه الرواية التي تنطق بأن القول في الزهد كان أول ما أخذ به في شعره
روى محمد بن عبد الجبار الفزاري أن أبا العتاهية اجتاز في أول أمره وعلى ظهره قفص فيه فخار يدور به في الكوفة ويبيع منه، فمر بفتيان جلوس يتذاكرون الشعر ويتناشد ونه، فسلم ووضع القفص على ظهره، ثم قال: يا فتيان! أراكم تذاكرون الشعر، فأقول شيئاً منه فتجيزونه، فإن فعلتم فلكم عشرة دراهم، وإن لم تفعلوا فعليكم عشرة دراهم، فهزئوا به وسخروا منه، وقالوا نعم، قال: لا بد أن يشتري بأحد القمرين رطب يؤكل، فانه قمر حاصل، وجعل رهنه تحت يد أحدهم، ففعلوا، فقال أجيزوا: