للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

(ساكني الأجداث أنتم)

وجعل بينه وبينهم وقتاً في ذلك الموضع إذا بلغته الشمس، ولما لم يجيزوا البيت غرموا الخطر، وجعل يهزأ بهم وتممه:

ساكني الأجداث أنتم ... مثلنا بالأمس كنتم

لين شعري ما صنعتم ... أربحتم أم خسرتم

وهي قصيدة طويلة في شعره

فهذه نزعة أبي العتاهية في الزهد والتصوف ظاهرة فيه تمام الظهور من أول أمره، ولا شك أنه رأى بعد هذا أن يتصل بشعراء الكوفة ليظهر بينهم أمره في الشعر، وأنه في سبيل هذه الغاية أخفى هذه النزعة في نفسه، وأخذ يسلك في اللهو والشعر مسلك هؤلاء الشعراء، ثم تركهم إلى بغداد عاصمة المملكة العباسية لينال من ظهور الشأن بالاتصال ببني العباس ما لا يناله لو بقي بالكوفة، فنال من ذلك بغيته وأكثر من بغيته، وأخذت نفسه تنازعه ميلها إلى الزهد، والى الظهور بمظهره الحقيقي الذي يريد أن يعكر فيه صفو هؤلاء الملوك، ويطلع الرعية على إسرافهم في الحياة، وغفلتهم عن الآخرة، وانصرافهم عن مناهج الخلفاء الراشدين، وسبل الملوك الصالحين، ويخدم في ذلك بمهارة فائقة أغراضاً سياسية له، سنبينها بعد في موضعها أيضا

ولا غرابة بعد هذا في أن يهتم الرشيد بأمر أبي العتاهية في هذه الحال الجديدة، ويعرف سوء أثر شعره في الزهد وما إليه في نفوس الرعية بالنسبة إليهم، وقد كان يشاهد افتتان الناس بأبي العتاهية وشغفهم بشعره الذي قرب إليهم ألفاظه ومعانيه، وفتح لهم من أبوابه ما أغلقه الشعراء السابقون، فصار يلهج به العابد في خلوته، والراهب في صومعته، والملاح في سفينته، والفلاح في حقله، والراعي في غدوه ورواحه، والعامل في شغله وفراغه، حتى صار شاعر الشعب بحق، ولسان الرعية الناطق بالصدق. وأنا نسوق من ذلك ما يدل على مقدار تعلق الناس بشعر أبي العتاهية وافتتانهم به:

قال يحيى بن سعيد الأنصاري: مات شيخ لنا ببغداد، فلما دفناه أقبل الناس على أخيه يعزونه، فجاء أبو العتاهية إليه وبه جزع شديد فعزاه ثم أنشده:

لا تأمن الدهر والبَس ... لكل حين لباساً

<<  <  ج:
ص:  >  >>