يا بني، أي شيطان ثار في دمك وسيطر على رأيك فأعمى بصيرتك وأطاش عقلك وأصم أذنيك، فذهبت تولي أباك العقوق والجحود والنكران بعد البر والطاعة والشكر. لقد كان حديث أبيك - وهو يقص قصتك - يتقطر أسى ولوعة، وإن قلبه ليبكي بكاء يسمع ويرى!
إني لا أخالك تذكر يوم ماتت عنك أمك طفلاً تدرج في فناء الدار، وإن الأبدي لتتلقفك في شفقة حيناً وفي شماتة حيناً والأبصار تحوم حواليك ساعة ثم تنصرف، إلا بصراً واحداً ما يبرح يتعلق بك، هو بصر أبيك، وإن العبرات المصطنعة لتتدفق باردة هينة فيها الكذب والخداع، إلا عبرات إنسان واحد كانت تنكف ساعة وتنهمر ساعات، وهي في الحالين تتضرم وتتوقد لأنها عبرات القلب، تلك هي عبرات أبيك! وإن الأذرع لتنفرج لتضمك في فتور وتراخ، ثم تلقى بك جانباً في غير اكتراث، إلا ذراعين تودان لو استطاعتا بضمة واحدة أن تدفعا بك إلى داخل القلب، هما ذراعا أبيك! وإن الألسن لتتحدث حديثاً طويلاً فيه الثرثرة واللغو، إلا لساناً واحداً لم ينطق بكلمة واحدة لأن حديث قلبه كان يشغله، ذلك هو لسان أبيك!
وكان أبوك - إذ ذاك - فتى في ريق الشباب وعنفوان الصبا لا يستطيع أن يكبت نوازع جسمه، ولا أن يكتم ثورة دمه، وهو أراد التوي عليه الأمر وتعسر، وما به فاحشة ولا فجور وتنازعه أمران: أفيتزوج فيلقي بك في قفر ويضيعك في تيه، أم يقتل شيطانه بين جنبيه وما بذلك طاقة؟ وأصطرع الرأيان في رأسه سنوات حتى بلغت سن المدرسة، فأرسلت إلى المدينة وتزوج هو.
ولم تصرفه الزوجة عنك ولا شغله الأولاد فأحاطك برعايته وعنايته، ورأت زوجة أبيك شدة حدبه عليك، فأمسكت عن أن تتناولك بحديث إلا لماماً خشية أن تجد منه الجفوة والغلطة، وهو صعب المراس وعر المرتقى. فما استشعرت - في يوم ما - فقد أمك ولا افتقدت حنانها.
وعشت عمر المدرسة والجامعة بين أخوتك في الذؤابة لا تجد مس الغربة وأنت في دار أبيك، ولا تحس الوحدة وأنت بين أخوتك، وأبوك يحبوك بعطف الأب وحنان الأم، ويجد