كشفت البحوث النفسية في مجالي الإنسان والحيوان عن حقيقة قد تطامن من غرور الإنسان بعض الشيء، تلك هي أن الحيوان لا يسلك سلوكا آلياً بحتاً كما ظن ديكارت الفيلسوف الفرنسي، بل ولا يسلك سلوكا غريزياً بحتاً كما اعتقد الكثيرون زمناً طويلا، وإنما سلوكه في كثير من المواقف ينم عن قدر من الذكاء العملي يمكنه من التصرف إزاء ما يجد من مواقف تصرفاً كفيلا بتحقيق أغراضه. فهو لا يهتدي بالفطرة وحدها التي تسم السلوك بطابع الجمود؛ وإنما هو يعدل سلوكه ويبتكر الوسائل الجديدة، حتى ليسهل علينا أن نلحظ - لدى الحيوانات العليا على وجه الخصوص - أنماطا من السلوك تتصف بالمرونة وتنم عن قدر من الذكاء لا يقل كثيراً عن ذكاء الأطفال في نفس المواقف. ومن التجارب العلمية ما يثبت قدرة الحشرات على الاستفادة من التجارب الماضية في التكييف للظروف الجديدة، وفي هذا تكمن البذرة الأولى للذكاء.
وكلما صعدنا في السلسلة الحيوانية زاد ذلك القدر من الذكاء العملي الذي يبلغ أقصاه لدى الكلاب والقردة. وبذلك تتلاشى الأسطورة القديمة التي تفصل فصلا حاسماً باتاً بين عالم الحيوان المحكوم بالغريزة، وعالم الإنسان المحكوم بالعقل، وتسفر الحقيقة التي لا مراء فيها: ألا وهي أن الكائنات الحية تنتظم سلسلة متصلة الحلقات من أسفل إلى أعلى، منطقها التطور من الأشكال الدنيا للحياة إلى الأشكال العليا في غير ما اختلاف حاد يكسر وحدة الحياة على ظهر الأرض، وتضيق الشقة الفاصلة بين الإنسان والحيوان. فكلاهما يسلك سلوكا غريزيا وكلاهما يسلك سلوكا عقلياً رائده الذكاء. فما الفارق إذن بين ذكاء النوعين؟
الإنسان من حيث السلوك العقلي في قمة الحيوانات؛ فهو أقدرها على السلوك سلوكا عقليا. هو في حياته يصارع الطبيعة وأحداثها، لا بحكم الفطرة فحسب، بل يفوق الحيوان قدرة على استغلال ذكائه في صراعه هذا مع الطبيعة. تقسو عليه ببردها وقيظها وأمطارها فيهرع إلى الأشجار يتخذ من أغصانها بيوتاً. تتوالى عليه فصول السنة بعضها فيه الخصب ووفرة الغذاء، وبعضها جدب لا طعام فيه، فيبتكر الوسائل يتجنب بها المجاعة، ويهتدي بعد تدبر وإعمال روية إلى ما نعرفه من مختلف أساليب خزن المياه وحفظ