للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[سعد باشا زغلول]

بمناسبة ذكراه الثامنة

كان رحمه الله كالبحر! لا تطالعه من أي جهاته إلا غمر نفسك بجلال العظيم، وشغل رأسك بخيال الشاعر، وأخذ حسك بروعة المجهول! لم يكن إنساناً كسائر الناس عظمته موضع الشذوذ في بشريته، وعبقريته بعض الكمال في نقصه، وقوته عَرَض منتقل في ضعفه؛ إنما كانت العظمة أصلاً في طبعه، والعبقرية فطرة في خَلْقِه، والقوة جوهراً في إرادته. وإذا كان النبوغ قوة في مَلَكَةٍ على حساب ملَكات، وارتفاعاً في جهة بانخفاض جهات، فأن نبوغ سعد باشا كان نظاماً عدلا في نوعه: ظهر في كل موهبة من مواهبه بمقدار واحد، وبهر في كل أثر من آثاره بشعاع ممتاز. فهو في صرامة المنطق مثله في لطافة الشعر، وفي جرأة القلب مثله في رقة الشعور، وفي بلاغة اللسان مثله في براعة الذهن، وفي كيد الخصومة نفسه في شرف الرجولة، وفي قيادة الجمعية التشريعية عينه في قيادة الأمة المصرية!

سعد زغلول ومحمد عبده هما الآية الشاهدة على سمو الجنسية المصرية الخالصة، والحجة القائمة على فضل الثقافة العربية الصحيحة. نشأ كلاهما قرويين لم يَشُبْ دماءهما عنصر دخيل، أزهريين لم يشلَّ تفكيرهما تقليد عاجز؛ ثم مضيا على إلهام الجنس، ورسم التاريخ، وهدى العقيدة، يدعو أحدهما إلى إصلاح الدين، ويدعو الآخر إلى إصلاح الدنيا، برجولة الخلق، وفحولة التفكير، وبطولة التضحية؛ حتى كان من أثر جهادهما المباشر ما نحن والشرق فيه من انتباه العقل وانتعاش الوجدان وثورة الحميّة.

كانت معجزة الرجلين في رسالتهما الإنسانية، من نوع معجزة الرسول في رسالته الإلهية: رجولة قاهرة وفصاحة ساحرة وخلق عظيم. وتلك هي عناصر الشخصية الجبارة التي تأمرك وكأنها تستشيرك، وتقودك وكأنها تتابعك، وتتطامن إليك وأنت منها كما تكون من البحر أو الجبل أو العاصفة!!

إذا شئت أن تختصر رسالة في كلمة فهي (الدفاع عن الحق)؛ تطاوع له منذ شب بدافع من غريزته الحاكمة وطبيعته الناقدة؛ فكان في كل مرحلة من مراحل حياته يذود عنه طغيان القوة، وسلطان الهوى، وعدوان الرذيلة. عُيِّن بعد خروجه من الأزهر محرراً في الوقائع المصرية مع أستاذه الإمام، فكان يكتب في الاستبداد والشورى والأخلاق، وينتقد الأحكام

<<  <  ج:
ص:  >  >>