التي كانت تصدرها يومئذ (المجالس الملغاة)؛ ثم عين ناظراً لقلم قضايا الجيزة، وكان حكمه حكم القاضي الجزئي، فنزل الحق من عدله وعقله في حمى أمين؛ ثم أصغى لصرخة الحق في الغضبة العرابية ففصل من وظيفته، فزاول المحاماة، وهي يومئذ حيلة الباطل وخصيمة العدل وآفة الخلق؛ فأنقذها من هذه المراغة، وطهرها من ذلك الرجس، وردّها إلى طبيعتها مجلوة الصدر عفيفة الأديم، تساعد القانون وتؤيد الحق.
وكان سعد أفندي زغلول أول محام أقرته المحاكم الأهلية في مصر، فجعل دستور هذه الحرفة النبيلة هذا الجواب الجامع الذي أجاب به ممتحنه وقد سأله عن واجبات المحامي فقال:
(درس القضية، والدفاع عن الحق، واحترام القضاء).
ثم اختير نائب قاض في محكمة الاستئناف، ويومئذ درس الفرنسية ونال إجازة الحقوق، فبرع القضاة الأوربيين بالذهن الغواص، والدرس المحيط، والتوجيه النزيه، والاستدلال الصحيح، والاستنباط الدقيق، والحكم الموفق. ثم انتقل من القضاء إلى وزارة المعارف، وكان لدنلوب فيها استبداد الطاغية، وفساد المستعمر، وعناد القدَر؛ وكان لهذا الفاجر صرعى كثيرون أولهم اللغة العربية والكرامة المصرية؛ فطأطأ سعد بسطوة الحق علو المستشار، وأعز جانب العربية في وطنها فجعلها لغة الثقافة، ووضع الأقدار في مواضعها فرفع بذلك من قدْر الكفاية. ثم انتخبته الأمة نائباً في (الجمعية التشريعية)، فكان بشخصيته الغلابة ولهجته الخلابة وحججه المُلزمة وأجوبته المفحمة رهبة الوزراء، ودهشة النواب، ومُتجه الأفئدة؛ وكان مناهجه فيها قوله المأثور:
(الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة)
ثم أُعلنت الهدنة ووضعت الحرب العامة قضية العالم كله على مكاتب الغالبين في (فرساي)، فدوى في سمعه صوت الحق الصريع، وعصفت في رأسه نخوة الشعب المستذَل، فنهض للغاصب المزهوّ نهضته المعروفة، فحيّس بها أنف الجبار العنيد، وفتح بفصلها الدامي تاريخ مصر الجديد.
وهكذا اصطفى الله سعداً لرسالة الحق، في أمة سَفِهَتْه في نفسها فلا تأخذه ولا تعطيه، ثم ركَّبه على الصورة التي أرادها لتبليغ هذه الرسالة، ثم هدى به قافلة قومه إلى طريق