للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[التجديد في الأدب]

للأستاذ أحمد أمين

- ٢ -

عرضت في مقالي السابق للبحث في الألفاظ وما تتطلب من جِدة؛ واليوم أعرض لضرب آخر من ضروب التجديد وهو التجديد في العبارة، وأعني بالعبارة الجملة التي يؤدَّى بها المعنى على اختلاف ألوانها، من حقيقة ومجاز وتشبيه واستعارة وكناية.

ومما لا شك فيه أن البليغ يستمد تشبيهاته واستعاراته وما إلى ذلك مما يحيط به من بيئة طبيعية واجتماعية. فالأدب الجاهلي (مثلاً) صورة صادقة لمعيشة العربي في الجاهلية؛ إذا بكى، فإنما يبكي الأطلال والمنزل الداثر والرسم العافي. وإذا رحل، فعلى ناقة أو بعير. وإذا أعجبه نبت، فالشيح والقيصوم، والخزامى والعَرار. وإذا ذكر النسيم، فصبا نجد. وإذا حن إلى مكان، فموطنه من الرقمتين ورَضوى وثَبير. كذلك كان في تشبيهاته واستعاراته وأمثاله: يستوحي ما يحيط به، ويستلهم ما يقع حسه عليه. فقال: استنوق الجمل، وهو أعز من الأبلق العقوق، وأبدت الرغوة عن الصريح، وهم أكثر من الحصى، وهو ليث غابة، وما تُحَلُّ حَبْوته، وألقى حبله على غاربه، وقصُرت الأعنة، واشتجرت الأسنة، وزلزلت الأقدام من رنين القِسِي، وقراع الرماح، وطحنهم طحن الرحى، ومطله مطل نعاس الكلب، وكالباحث عن حتفه بظلفه، وحط راحلته، وضرب أوتاده، وألقى عصاه، والقافلة تسير والكلاب تنبح. إلى كثير من أمثال ذلك، فهم في كل هذا يصفون حياتهم، ويشتقون منها تشبيهاتهم، ويضربون منها أمثالهم.

وتتابع أدباء العرب بعدُ يزيدون في التعبير، تبعاً لتغير المعيشة الاجتماعية، وتقدمهم في الحضارة. فقالوا: صندل الشراب وعنبره (وكأن أخلاقه سبكت من الذهب المصفى) ويكاد يسيل الظرف من أعطافه، ويمازج الأرواح لرقته (قد دس له الغدْر في الملَق) وهو من صيارفة الكلام، يتطفل على موائد الكتاب، وكأن ألفاظه قطع الرياض، وكأن معانيه نسم الآصال. وهكذا كانت العبارات المحدثة في العصر العباسي تخالف من وجوه كثيرة العبارات الجاهلية والأموية.

وقد جارى المؤلفون الأدباء: يدونون ما اخترعوا، ويقيدون ما أبدعوا. فرأينا عبد الرحمن

<<  <  ج:
ص:  >  >>