للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الأجنبيَّة

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

أحبَّها وأحبَّتْه، حتى ذهب بها في الحب مَذْهباً قالت له فيه: (لو جاءني قلبي في صورةٍ بشريَّةٍ لأراه كما أُحِسُّه، لما اختار غير صورتك أنتَ في رقِّك وعطفك وحنانك.) وحتى ذهبتْ به في الحب مذهباًقال لها فيه: (إن الجنة لا تكون أبدعَ فناً، ولا أحسنَ جمالاً، ولا أكثرَ إمتاعاً لو خُلِقَت امرأةً يهواها رجل؛ إلا أن تكون هي أنتِ.) فقالت له: (ويكونَ هو أنتَ. . .).

وتَدَلَّهتْ فيه، حتى كأنما خَلَبها عقلَها ووضع لها عقلاَ من هواه؛ فكانت تقول له فيما تَبُثُّه من ذاتِ نفسها: (إن حبَّ المرأة هو ظهورُ إرادتها مُتَبرِّئةً من أنها إرادة، مُقِرَّةً أنها مع الحبيب طاعةٌ مع أمر، مُذْعِنَةً أنها قد سلّمت كبريائها لهذا الحبيب، لتراه في قوّته ذا كبريائين.)

وافتتن بها حتى أخذتْ منه كلَّ مأخَذ، فملأتْ نفسَه بأشياء، وملأت عينَه من أشياء؛ فكان يقول لها في نجْواه: (إني أرى الزَمن قد انْتَسَخَ مما بيني وبينك، فإنما نحن بالحب في زمن من نَفْسينا العاشقتين لا يُسمَّى الوقتَ ولكن يسمَّى السرور، وإنما نعيشُ في أيام قلبيّةٍ لا تدلُّ على أوقاتها الساعةُ بدقائقها وثوانيها، ولكنِ السعادة بحقائقها ولذَّاتِها.)

وتحابَّا ذلك الحبّ الفنّيَ العجيب الذي يكون ممتلئاً من الروحين يكادُ يفيض وينسكب، وهو مع ذلك لا يبرَحُ يطلب الزيادة، ليتخيّل من لذتها ما يتخيل السكِّيرُ في نشوتهِ إذا طفحت الكأس، فيرى بعينيه أنها ستتَّسع لأكثَرَ مما امتلأت به، فيكونُ له بالكأس وزيادتها، سُكْرُ الخمرِ وسكرُ الوهم.

تحابَّا ذلك الحبّ الفَوّار في الدم، كأن فيه من دَوْرته طبيعة الفراق والتلاقي، بغير تلاقٍ ولا فراق؛ فيكونان معاً في مجلِسهما الغَزَليّ، جَنْبُهُ إلى جنبها وفَاهَا إلى فيه وكأنما هرَبَتْ ثم أدرْكَها، وكأنما فَرّتْ ثم أمسَكَها. وبين القُبْلةِ والقُبْلة هِجرانٌ وصلح، وبين اللَّفتَةِ واللّفتة غَضَبٌ ورضى.

وهذا ضَرْبٌ من الحب يكون في بعض الطبائع الشاذّة المُسْرِفة التي أفرطتْ عليها الحياةُ إفراطها فَيَلِفُّ الحيوانيّةَ بالإنسانية، ويجعلُ الرجلَ والمرأةَ كبعض الأحماض الكيماوية مع

<<  <  ج:
ص:  >  >>