بعضها؛ لا تلتقي إلا لتتمازج، ولا تتمازجُ إلا لتَتّحد، ولا تتحدُ إلا ليبتلعَ وجودُ هذا وجودَ ذاك.
وضَرَب الدهرُ من ضَرباتِه، فأبغضتْه وأبغضها، وفَسَدتْ ذاتُ بينِهما، وأدبر منها ما كان مُقْبِلاً؛ فَوَثَبَ كلاهما من وجود الآخر وَثْبة فَزَعٍ هارباً على وجهه. أما هو فَسَخِطَها لعيوب نفسها، وأما هي. . . وأما هي فَتَكرَّهَتْه لمحاسن غيره، وانسَرَبَتْ أيام ذلك الحب في مسَارِبها تحت الزمن العميق الذي طَوَى ولا يزالُ يطْوي ولا يبرحُ بعد ذلك يطوي؛ كما يغورُ الماءُ في طِباق الأرض. فأصبح الرجل المسكين وقد نزلتْ تلك الأيام من نفسه منزلةَ أقاربَ وأصدقاء وأحِبّاء ماتوا بعضُهم وراءَ بعض، وتركوه ولكنهم لم يبرحوا فِكْرَه، فكانوا له مادّةَ حسرة ولَهْفة. أما هي. . . أما هي فانشقّ الزمن في فكرها بِرَجّةِ زلزلة، وابتلع تلك الأيامَ ثم التأم. . .!
فحدّثنا (الدكتور محمد) رئيس جماعة الطلبة المصريين في مدينة. . . بفرنسا، قال: وانتهى إليّ أن صاحبنا هذا جاء إلى المدينة، وأنه قادمٌ من مصر، فَتَخالَجني الشوقُ إليه، ونزعتْ إلى لقائه نفسي، وما بيننا إلا معرفتي أنه مصريٌّ قَدِمَ من مصر؛ وخُيّل إليّفي تلك الساعة مما اهْتَاجني من الحنين إلى بلادي العزيزة، أن ليس بيني وبين مصرَ إلا شارعان أقطعهُما في دقائق؛ فخففتُ إليه من أقرب الطرق إلى مثواه، كما يصنع الطير إذا ترامى إلى عُشّهِ فابْتدَرَهُ من قُطْرِ الجوّ.
قال: وأصبْتُه واجماً يعلوه الحزن، فتعرّفتُ إليه فما أسرَعَ ما مَلأَ من نفسي وما ملأتُ من نفسه، وكما يمَّحِي الزمانُ بين الحبيبين إذا التقيا بعد فُرْقة - يتلاشى المكانُ بين أهل الوطن الواحد إذا تلاقوا في الغرْبة. فذابت المدينةُ الكبيرة التي نحن فيها، كأنْ لم تكن شيئاً، وتجلّى سحرُ مصر في أقوى سَطوتِه وأشدها، فأخذَنا كلينا فما استشعرنْا ساعتئذٍ، إلا أن أوربا العظيمة، كأنما كانت مرسومةً على ورقة، فطويناها وأحللْنا مصرَ في محلها.
وطغى علينا نازِعُ الطرَب طغياناً شديداً، فأرسلْتُ من يجمع الإخوان المصريين، واخترتُ لذلك صديقاً شاعرَ الفطرة، فَنَزا به الطربُ، فكان يدعوهم وكأنهُ يُؤذّن فيهم لإقامة الصلاة. وجاءوا يهرولون هَرْولةَ الحجيج، فلو نَطَقتِ الأرض الفرنسية التي مَشَوا عليها تلك المِشْيةَ لقالت: هذه وطْأةُ أٌسودٍ تتَخيّل خُيلاءهَا من بَغي النشاط والقوة.