للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نظرة في النجوم]

للأستاذ أحمد أمين

مما أرثى له أن أرى الشرقيين وخاصة سكان المدن لا ينتفعون بسطوح منازلهم الانتفاع الواجب، فهم قلما يصعدون إليها إلا عند تركيب قوائم الراديو أو حبال الغسيل أو تخزين ما يستغنى عنه في حجر السطح، وهم يحبون أن يلتصقوا بالأرض ولا يحلقوا في السماء، وينزلوا بحضيض المنازل ولا يسموا إلى أوجها

وفاتهم أن من خير متع الحياة (سطوح المنازل) لا سيما في جو بديع كجونا، تصفو فيه السماء في أكثر أشهر السنة، ويهب فيه النسيم العليل ليلا، ويمتد فيه البصر، وتنشرح فيه النفس، ولياليه بين ليال مقمرة بديعة لا تمل العين جمالها، وليال غاب فيها القمر فقامت النجوم مقامه تناغيك وتحدثك وتملأ قلبك روعة ونفسك حياة

تبا للأعين التي تنظر دائماً إلى تحت، ولا تنظر إلى فوق، وإلى الأسفل لا إلى الأعلى، ويلذ لها أن تنظر إلى المسافات القريبة وإلى ما تلمس، ولا تنظر إلى البعد السحيق والمنظر البعيد. إن العين إذا اعتادت ذلك قلدتها النفس فلم تنظر إلى الأمل البعيد ولم تلتذ بالطموح، ولم تسعد بالأمل، وقنعت بما هي فيه ورضيت بالدون وتشاغلت به، وصدها ذلك عن أن تنشد الكمال، للارتباط الشديد بين عالم الحس وعالم العقل وعالم الروح

ولقد كان آباؤنا الأولون أكثر منا عناية بالسماء، حتى العرب في بداوتهم أطالوا النظر في النجوم وانتفعوا بجوهم المفتوح، وسمائهم الصافية، فعرفوا كثيرا منها، ووضعوا لها أسماءها، وكان لهم فيها ملاحظات دقيقة، وأشعار رقيقة؛ أما نحن فقل أن نعرف من أسماء النجوم إلا الشمس والقمر، وجهلنا بأسماء مشاهيرها جهل فاضح لا يتفق وسماءنا البديعة. وأما شعراؤنا - سماحهم الله - فأكثرهم لا يشعر في السماء والنجوم إلا تقليدا، وقد يبرح به ألم الهجر في غرفته المسقوفة وقد أغلقت شبابيكها وأسدلت ستائرها ومع ذلك يشكو النجوم وثباتها وهو لا يرى سماء ولا نجوما

لو كان في أوروبا جو مكشوف دافئ كجوانا، لعرفوا كيف ينتفعون بالسماء كما انتفعوا بالأرض، ولاتخذوا من سطوح منازلهم مقاماً للسمر الحلو والتأمل اللذيذ، ولاتخذوا منها منديات ومقاه ومسارح للسينما والتمثيل وأماكن للمحاضرات فانتفعوا بجمال الجو وجمال

<<  <  ج:
ص:  >  >>