يلاحظ أن معالي الدكتور طه حسين بك لم تشغله أعماله في الوزارة - على كثرتها وتعقدها - عن الوفاء بما ارتبط به من إلقاء محاضرات قبل توليته الوزارة، وقد تعددت هذه المحاضرات، وكانت أخراها محاضرة عنوانها (الثقافة، وما هي؟) ألقاها يوم الخميس الماضي بنادي الخريجين المصري، بدأ بالتعليق على ما قوبل به من تصفيق وما قدم به من ثناء، فقال: لا تصدقوا شيئاً من ذلك فأنا نفسي لا اصدقه، وما صدقت ثناء وجه إلي قط، ولم أذكر في وقت من الأوقات أبياتاً قالها أبو العلاء المعري كما أذكرها في هذه الآونة كلما رأيت تصفيقاً وهتافاً وثناءً، فقد حاصر صالح ابن مرداس مدينة المعرة وضيق عليها، فتضرع أهلها إلى أبي العلاء ليكون سفيرهم عند صالح، فرق قلبه لهم وقام بهذه السفارة على كره منه، فقبل صالح وساطته، ولكن أبا العلاء لم يعد من عنده حتى أعلن ألمه لاضطراره إلى ذلك، فقال:
تغيبت في منزلي برهة ... ستير العيوب قليل الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقلَّ ... وحم لروحي فراق الجسد
بعثت شفيعاً إلى صالح ... وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع مني سجع الحمام ... وأسمع منه زئير الأسد
فلا يعجبني هذا النفاق ... فكم نفقت محنة ما كسد
ثم أشار إلى حرصه على الوفاء بهذه المحاضرة رغم الشواغل وقال:
إن هذا الحديث سيتناول أطرافاً من أشياء ذكرتها وقتاً ثم نسيتها، وسيكون إلى الحديث العادي أقرب منه إلى شيء آخر. ثم آخذ في الحديث فرأيناه يعلو على كثير من المحبر.
قال: أخص ما يمتاز به هذا العصر أنه يبيح للشعوب أشياء لم تكن مباحة لها من قبل، أشياء كانت مقصورة على طائفة من الناس أولها السياسة، فقد كانت شؤون الحكم مقصورة على طبقة من السادة وقد ابتدع اليونان في العصور القديمة إشراك الشعب في السياسة، ولكن هذه البدعة لم تعمر طويلاً، لأن الإنسانية لم تكن هيئت لها، فعادت الشؤون السياسية