أرأيت هذا الخلق العجيب الذي لم ينل منه مرّ الدهور ولا تقلب الحدثان. . . تمضي الحوادث وتتصرّم الأجيال ونحن نعتقد أن الإنسان إنما يجري لأجل ويسعى إلى أمد، ولكن كرّ الأيام واعتراض التجارب تكاد تجعلنا نوقن بأن البشر إنسان واحد منذ وجد إلى أن تقوم قيامته. . . وما هو ذلك الفارق بين إنسان اليوم وإنسان الماضي وإنسان المستقبل؟ ألسنا نوعاً واحداً ذا طبيعة واحدة وآمال متماثلة؟ خلق متماسك الحلقات متصل الوجود يسعى بعضه إلى خير باقيه؛ زرع أوله فحصد أخره، وبني ماضيه فتوطن حاضره، وجرب سلفه فأفاد الخلف؟
هذا دجلة يصخب؛ يزخر عبابه، وتزُم أمواجه، ويصمّ هديره، يمر ببغداد اليوم وقد مرّ بها من قبل أيام الرشيد، واخترق دولة بابل وآشور، وجرى قبل ذلك كله في أمم قد خلت لا يعلمهم إلا الله. فهل تغير الناس أم تغير دجلة؟ وهل كانت مياهه في تلك الأحقاب غيرها في أيامنا هذه. . . أم أن الناس اليوم هم غيرهم في تلك الأيام؟ ليس من البعيد أن يكون دجلةُ الماضي دجلةَ الحاضر بمائه وهديره وطغيانه؛ أما إنسان دجلة اليوم فلا يبعد أيضاً أن يكون هو إنسان دجلة الماضي. وما الذي يدرينا أن الحياة على وجه هذه الربوع لم تدُر وتتكرر كما دارت مياهها وتقلبت. ألم تسمع قول الماضين:
كالبحر يمطره السحاب وما له ... فضل عليه لأنه من مائه
وقولهم:
خفف الوطء ما أظن أديم الأ ... رض إلا من هذه الأجساد
زُمَّ يا دجلة بمائك واصخب وتهدّد فلن نفهم من لغتك حرفاً كما لم تفهم منها القرون الأولى شيئاً. الناس يحيون على شاطئيك ويمر بهم العيش ألواناً وأطواراً وهم لا يكادون يبدلون ولا يتبدلون: فظالم متمادٍ في ظلمه، وضال متفانٍ في ضلاله، وذو مال لم تشبعه الدنيا فتحيل لها شتى وجوه الحيل يبتغي الرفاه والمزيد، وشعوب رزحت في أطواق الذل والجهل وناءت بأغلال الاستضعاف فلم تتململ في أقفاص الهوان. . . لقد خدع جمال