كانت قرطبة تعد من المدن العالمية المهمة، وكانت أعظم مدن الأندلس جميعاً، سواء بأبنيتها الجميلة الفخمة، أم بدور كتبها الكثيرة الواسعة، أم بحدائقها وبساتينها البديعة. وقد أتخذها عبد الرحمن الداخل عاصمة له، وشيد فيها القصور والحدائق والأبنية والمساجد، ولا سيما الجامع المعروف (بجامع قرطبة) وظلت عاصمة للأندلس حتى زمن عبد الرحمن الناصر، ثامن ملوك بني أمية هناك، إذ أنشأ على مقربة منها مدينة الزهراء المشهورة، وجعلها عاصمة له بدلاً منها، وفي عهد الحكم المستنصر ازدهرت البلاد ازدهاراً عظيماً، وكثرت دور الكتب والمدارس، وانتشرت العلوم والآداب بين طبقات الأمة، وكان لقرطبة النصيب الأوفر من عنايته، حتى لقد عين أخاه الأمير عبد العزيز مديراً لإحدى مكاتب (دور كتب) تلك المدينة العظيمة، ثم جاء هشام الثاني، فعجز عن إدارة المملكة، وتدخل أرباب المصالح والمطامع في أمورها، وكانت النتيجة انفصال الأقاليم واستقلالها، ومن جملتها (قرطبة) إذ استقلت سنة ٤٢١هـ - ١٠٢٩م، واستولى عليها (أبو الحزم بن محمد بن جهور)، وأسس الدولة الجهورية فيها (٤٢٢هـ - ١٠٣٠م)، ولما مات (٤٣٥هـ - ١٠٤٣م) تولى الأمر بعده أبنه (أبو الوليد محمد بن جهور)، ثم توفى وخلفه ابنه عبد الملك بن محمد، فكرهته الرعية لسوء معاملته لهم، ثم خلعوه، وأخرجوه من قرطبة (٤٦١هـ) متحدين مع جيش محمد بن عباد. وبسقوطه انقرضت دولة بني جهور، ومنذ ذلك الوقت بدأت قرطبة في التأخر، وفي سنة ١٢٣٦م استولى عليها الإفرنج، وطردوا أهلها، واتخذوها حصناً على حدود مملكتهم، وهي الآن من المدن الصغيرة، ويبلغ عدد نفوسها (٨٠٠٠٠) نسمة. . .
معيشة أهلها وصنائعهم
أما في تلك العصور الزاهرة فكان عدد نفوسها يربو على المليون، وكلهم يعيشون في خفض من العيش ورفاهية وسعادة، ومما ساعدهم على تلك الرفاهية إتقانهم لفنون وصنائع كثيرة، وزيادة نسبة المتعلمين والمثقفين بينهم، كما كان الحال في باقي المدن الأندلسية المتوسطة والكبيرة، فاشتهرت غرناطة بجودة حريرها وطليطلة بتفننها في صنع الأسلحة،