جئت مصر من الشام في يوم وبعض يوم، تخب بنا مراكب الحديد، وأين منها مطايا البيد! حتى بلغنا القاهرة فطالعتنا مواكب النخيل على لمحات النيل، وقد غمرت الآفاق شمس حمراء مازالت منثورة الغرر، وهاجة الضياء، حتى ألقى بنا القطار على محطة باب الحديد.
دخلت مصر يتنازعني الوجوم للغربة، والشوق لبلدة طالما هفا الخيال إليها، واستقرت بها نواي وقرت بها عيني، فتغمرت من النيل، واستذريت بظل المقطم كما قال الشاعر، وقد طوفت بحدائق مصر ومغانيها، وما فاتتني مفاتن الجزيرة ومباهج الطبيعة فيها، ثم وددت أن أملأ العين من ريفها، وأستمتع بنيلها الذي يفيض على جنباتها، فمضيت في رحلة فنية إلى أسوان، أنشأها المعهد العالي لمعلمات الفنون، وهو بنية مجد للمرأة العربية، وجامعة ثقافة للمصريات، أضفت عليه عميدته الفضلى السيدة عائشة إقبال راشد من اسمها ونفسها رشداً وإقبالا.
غادرنا القاهرة مع بضع عشرة فتاة من قسم الفنون الجميلة بالمعهد، تحدوهن صديقتاي الأستاذتان إنعام سعيد وعزيزة يوسف، وهما في طليعة من أنجبت مصر من بناتها اللاتي ضممن في الجوانح حب الوطن إلى ثقافة الغرب الذي نزلن معاهده سنين للقانة الفن ونباهة الفكر، ثم عدن إلى الكنانة يطبعن الفتيات المتعلمات بمياسم التجديد، ويكشفن عن مواهبهن بالتوجيه والتسديد.
فهذه محطة باب الحديد تلقاني مرة ثانية، تحت عشية غير مبتئسة ولا واجمة، منيرة بمصابيح تكسف الشمس بسطوعها، فأين نفسي الفرحة في هذه الأمسية من قلبي المحزون حين بلغت مصر منذ عام الوحدة مهيمنة علينا؟
الآن أدرك عظمة المكان، واحسبني لولا العمائم البيض تلوح بها الهامات، والجلابيب الضافية تخفق فيها القامات، لكأني أبرح عاصمة في ديار الغرب، فقطار يؤج ويعج، وناس يغلي بهم الزمن يخفون إلى الركوب أو ينزلون من التوديع.
ودق ناقوس الرحيل فوجف القطار ثم سار تحت جنح الليل، وباتت مصر خفية في طي