الدجى عنا، وتغورت المصابيح كلما ابتعدنا، حتى عطفت بنا الدروب وهدهدنا في مجاثمنا دوي القطار وهدير آلاته، وكاد النعاس يأخذ بمعاقد جفوننا لولا أنس الرفيقات. ولولا مرح الطالبات واستفاضة النكتة على أطراف ألسنتهن، لغططنا في سبات عميق كما يغط الطفل حين يترجح به السرير.
وكنا نتلفت بين الفينة والفينة، فنطل من المنافذ، والركب يسري كسهم نزعه العلم عن قوس الحضارة، فنمسك رؤوسنا عن صفقة الريح، ونحبس شعرنا عن التشعيث، وهاج فينا الحنين لمرأى النيل حين سكب القمر عليه شعاعه، فانسحب كسيف من فضة مسلول على أرض مصر ليدفع عنها عاديات المحن.
وأسفر الصبح على رؤوس النخيل يلتمع الندى على أوراقه الخضر، وتستدير سعفه فتبدو من بعيد كالقباب الصغيرة، ومن قريب كالمراوح المنشورة أو المظلات المرفوعة، وصاغت لنا ذكاء وجه النيل بالذهب فتألقت تلاميعه وتلوت على حواشيه، ولاح كمرآة مجلوة تتمرى بها الطبيعة على نشيد طيبة الذي كان رقراق الماء يردده لحناً مكروراً منذ الأزل باقياً على الأبد.
وأخذ يشارفنا الريف بصوره المتشابه وألوانه الكابية، وقد انطبعت بيوته بطوابع الروح المصري القديم، فلاحوه سمر الوجوه عراض المناكب، سكبوا على الأرض عرق الجبين، وعركوها بكدح الأيدي، وطفحت شفاههم بالمباسم لصباح وضاح لا يسأم القروي الفرحة بلقائه، ولو لقي هذا الفلاح من سيده بسمة الشاكر ورحمة المالك وكان أبي الخنوع، مطبوع الميل للنظافة متقبلًا للإصلاح، لعد أعز أمثاله في الدنيا، لأن ضفاف مصر الخيرة أجود أرض للزرع والإنبات
أما نساء الريف فوديعات الوجوه منتصبات القامات، يستقبلن وجه النهار غاديات بالجرار على رؤوسهن ثم رائحات من مسارب النيل، وهن يشاركن الرجل في خدمة الأرض والأنعام، وكلما وقف بنا القطار على ديار ذكرني بأرض بلادي، فمن مشارف الشام إلى مرابع بيروت يقف أولاد القرى تلقاء القطار في المحطات، بأيديهم سلال أو قصاع ممتلئة بالفواكه، ينادون على بيعها، وصنوف الباعة طوافون بخبز وأدام على سفر بغير زاد، ولم أجد مثل هذا في مسيري على درب أسوان. وجزنا أرضاً في جوارها الأقصر الحافلة