ليطمئن دعاة الجديد من كتابنا الأدباء فلست بمقاسمهم فخر نصر
أحرزه، ولا بمنازعهم فضل طريق شقوه، وليطمئن أنصار القديم فلست
بمنتقص تراثا عزيزا قدسوه، ولا عائب جمالا فتنوا به وألفوه، ولكني
مطلعهم على واد جديد من أودية الأدب تلتقي عنده وجهاتهم، ويجدون
فيه جميعا ما ينفع غلتهم.
سيجد فيه عشاق المعاني المبتكرة منبعا خصبا، ولا يعوزهم معه امتداد في الخيال أو سعة في التأمل أو عمق في التفكير، وسيجد فيه عشاق الصياغة البارعة، والأنغام الرنانة مشاهد سحرية تتجلى في وصفها بدائع صناعتهم، وآفاق خلابة يطيب فيها ترديد أنغامهم، ومسارح للجمال أشد استهواء وأروع تناسقا من كل ما مر بخاطرهم. ففيه مبعث التفكير ومهبط الوحي لمن كان عصى الابتكار، يضنيه تلمس الخيال، ويجهده أن يلد كل يوم جديد، وفيه ذخيرة الرأي ومادة الوصف لمن كان غنيا باللفظ والصياغة فقير المعاني، هذا الأدب هو ما أسميه أدب العلم.
وقد يبدو غريبا إمكان التزاوج بين العلم والأدب، فقد ألفنا أن نرى العلم سلكا من الحقائق الجافة يؤلف بينها منطق صارم دقيق، وألفنا لغة العلم مضغوطة جافة مشحونة بمصطلحات موضوعة تجعل بينها وبين الغريب عن العلم حجابا، وألفنا الأسلوب العلمي محبوكا لا يكاد يطل عليك من خلف عباراته روح إنسانية تفيض عليه الحياة، فهو جسم سليم الأعضاء تام التركيب، ولكنه ميت لا روح فيه، وهذا شر ما ضيق دائرة العلم وحصره في طائفة المشتغلين به.
والأدب؟ لقد ألفنا الأدب متمردا على مقاييس المنطق الجافة يحمل رسالته للقلوب لا للعقول، هو روح يفيض على كل مادة فيسبغ عليها حياة خالدة، هو نفس الأديب مقطرة تشف من وراء كل عبارة يسطرها، هو موسيقى الإنسانية تتجاوب أصداؤها في كل قلب،