للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[المجنون]

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

تتمة

وطال المجلس بنا وبالمجنونين، والكلام على أنحائه يندفع من وجهٍ إلى وجه، ويمر في معنى إلى معنىً؛ فأردت أن ابلغ به إلى الغاية التي جمعت من أجلها بين هذين المجنونين، بعدما انطلقا في القول وانفتح القفل الموضوع على عقل كل منهما وكان قد مر في الندى بائع روايات مترجمة (بوليسية وغرامية ولصوصية!) يحمل الرجل منها مزبلة أخلاقٍ أوربية كاملة لينفضها في نفوس الأحداث من فتياننا وفتياتنا، فقلت (لنابغة القرن العشرين): أتقرأ الروايات؟ قال: لا، إلا مرة واحدة ثم لم أعاود، إذ جعلتني الرواية روايةً مثلها قلنا: هذا أعجب ما مر بنا منذ اليوم، فكيف صرت رواية؟ قال: أنتم لا تعرفون طبيعة النوابغ، إذ ليس لكم حسهم المرهف، ولا طبعهم المستحكم، ولا خصائصهم الغيبية، ولا خواطرهم المتعلقة بما فوق الطبيعة. قلت: نعم أعرف ذلك؛ وما من (نابغة) إلا هو بين عالمين على طرف مما هنا وطرفٍ مما هناك، فهو خراجٌ ولاجٌ بين العالمين؛ وله نفسٌ مركبة تركيبها على نواميس معروفةٍ وأخرى مجهولة، فهي تأخذ من الظاهر والباطن معاٌ، ويحصرها المكان مرة ويفلتها مرة، وتكون أحياناً في زمان الأرض، وأحيانا في زمن الكواكب من القمر فصاعدا. . . ولكن. . .

فقطع علي وقال: أضف إلى ذلك أن هذه العقول التي تحصر من يسمونهم العقلاء في الزمان والمكان، لا توجد أهلها إلا الهموم والأحزان والمطامع السافلة والأفعال الدنيئة، فانهم يعيشون فوق التراب

قلت: نعم، وإذا عاشوا فوق التراب فباضطرارٍ أن تكون معاني التراب فوقهم وتحتهم ومن حولهم وبين أيديهم، فليسوا يقطعون على هذه الأرض إلا عمراً ترابياً في كل معانيه ولكن. . .

قال: وزد على ذلك أنهم مقيدون تقييد المجانين غير أن حبالهم وسلاسلهم عقلية غير منظورة؛ وبتغليلهم تغليل المجانين يسمون أنفسهم عقلاء، وأعقلهم أثقلهم قيوداً، وهذا من الغرابة كما ترى

<<  <  ج:
ص:  >  >>