من العقول عقل كالرسول الذي تثق بقدميه ولا تثق برأسه: ترسله وتفصل له ما يعمل في كل حالة، فإذا طرأ طارئ لم تُسلف له فيه وصية فلا عمل ولا تصريف حتى يرجع إليك. فالشيء عنده إما معمول بأمر أو متروك بأمر، وإما حسن كما تراه أو قبيح كما تراه، ولا توسط ولا تدرج بين الأمور
ومن العقول عقل كالرسول المفوض: تنبئه بمرادك ثم تكل إليه تحصيله كما يريد، فلا تبيح ولا تمنع، ولا تقسم الأمور كما تراها، بل تدع له أن يقسم ما يشاء حين يشاء
العقل الأول لا غنى له عن الحدود الحاسمة في الكلام؛ فالشيء عنده إما أبيض أو أسود، وإما حلو أو مر، وإما مأخوذ أو متروك؛ ولا يجوز أن يكون مأخوذاً في حال ومتروكا في حال، ولا أن يكون حلواً ومراً في وقت واحد، ولا أن يكون بين البياض والسواد تارة يبيض وتارة يسود على حسب الضياء والظلام، وعلى حسب الموقع الذي تنظر منه إليه
والعقل الثاني لا يتقيد بالحدود الحاسمة ولا يحتاج إليها، لأنه يرى الدرجات بين المسافات، ويرى الظلال بين الألوان، ويرى التشكيلات بين الأشكال
فالشيء عنده لا يكون بعيداً وحسب، ولا قريباً وحسب، وإنما يكون بعيداً بمقدار كذا وقريباً على درجة من القرب مقسومة بين الدرجات؛ وقس على ذلك سائر ما يدركه ويحده ويعيه
ولغات الأمم تبين لنا مقدار نصيبها من العقل المسخر ومن العقل المفوض
فاللغة التي تقل فيها (الظروف) هي اللغة التي قلما يستغني أصحابها عن الحدود الحاسمة والأوامر المفروضة، لأنهم يجهلون الفروق ولا يدركون وجوه الاختلاف، إلا إذا بلغت من الظهور والاتضاح مبلغ النقيض من النقيض، أو مبلغ الشيء المميز بعلامة لا تشتبه بغيرها من العلامات
واللغة التي تكثر فيها الظروف هي لغة العقول المفوضة أو العقول المتصرفة، لأنها تمح الفرق الصغير فلا تقف عند الحد الحاسم الكبير، وتري العمل الواحد على أشكال متعددات، فلا تحصره في شكل واحد محدود محتوم
و (الظرف) في اللغة هو الكفيل بإظهار هذه الفروق الصغيرة، وتقسيم الدرجات بين