قرأنا في العراق - أيام الدراسة - على طائفة من أشياخ مصر، ونفر من أئمة اللغة في مغانيها، وردوا العراق، فانتهزنا فرصة مقامهم، ولبثوا فيها فاهتبلنا مكثهم، أقبلنا على الأخذ عنهم، واعتكفنا على الإفادة منهم، وتوفرنا على الدراسة عليهم، وقد كانت أيامهم حفلا، يعمرها الأنس، ويغمرها البشر، وتشوبها النعماء
لازمتهم ملازمة السقب لظئره لا يزايلها، وخالطتهم مخالطة الابن لأبيه لا يفارقه. ولا أزال أمحضهم هواي، ولا أنفك أصفيهم ودي، وقد شغفت حبا بفضلهم، وأولعت وجدا بعلمهم، وأغربت صبابة بخلقهم. وكنت إذا آن أوان الدرس أقبل عليهم ولا كالظمآن، وأهفو إليهم ولا كالعجلان. وكان ذلك يقربهم مني ويزلفني عندهم. وقد كان يجمعني معهم شعر، ويؤلف شملنا أدب، ولقد كان فراقهم يوم حزن لم استطع صبرا عليه، وكان تحملهم يوم أسى لم أملك حملا له
وما أنس لا أنس شيخهم في مصر - غير مكابر - إمام النحاة أستاذنا أحمد يوسف نجاتي، الذي أعجبت بفصاحته، وأغرمت بمنطقه، وكلفت بشمائله، وهو عيبة علم حافلة وجؤنة أدب ساطعة، تنم على فضله أصول الأدب التي هذبه، وتدل على علمه دواوين اللغة التي أوضحها، وتعبر عنه مجاميع السير التي حررها.
قرأنا عليه النحو فذكرنا سيبويه، وقرب من خواطرنا ابن هشام، وأيا ابن يعيش وأسمعنا الكسائي، ونشر المبرد. ولا نزال كلما ذكرناه حننا نزوعاً نحوه، وطربنا شوقاً إلى القرب منه، وزدنا وجداً إلى لقياه
وهو من بيت شهير ينميه إلى سيدي الناس فرع شامخ، وعرق طيبن , حسب باذخ، ونسب وضاح. كان آباؤه من أئمة علماء الدين وأولى الأمر والوجاهة بالإسكندرية، درس في مجالس العلم بالمساجد، وتخرج في دار العلوم سنة ١٩٠٦ لا يعاوره ملاءة الحضر أحد أبدا. وكان لازم الإمام الحكيم الشيخ محمد عبده - رضي الله عنه - واقتدى بهداه؛ وهو وارث علمه الجم، وأدبه الغزير، وخلقه العظيم، وفضله الباهر، ومواهبه الجسيمة، وتواضعه الوافر. وأنا لا أعرف أحدا أحاط بفنون اللغة سواه، ولا أدري بأحد ملك نواصي