الأدب غيره
جاء العراق فتهللنا، وأقبل علينا ولا إقبال الحيا على الثرى المكروب فتشوقنا لدروسه تشوق الظمآن إلى الماء، واستمسكنا بمجلسه ولا استمساك الخائف بالأمن. وقد حل ساعة ورد بيت (رحمة الله الطاله باني) من أهل الجاه ببغداد واحتفوا به فأنشد مورياً:
تغربت عن مصر ببغداد طائعاً ... وقد حيل ما بيني وبين هوى النفس
يقولون يشفيك الأنيس من الجوى ... ومالي إلا رحمة الله من أنس
وكان أراد في غضون دراستنا عليه، وإبان أخذنا عنه، أن يجرب علمنا ويمتحن ذكاءنا، ويختبر فهمنا، وكان يعبر عن الامتحان بقرع الصفاة، فأقبل والصبح في العنفوان، وقال أريد لأقرع صفاتكم، فقلت أجيبه مورياً:
أبهذا البحر الذي جمع العل ... م فأوعى ورام قرع صفاتي
أنا إن رزتني ولا غرو صلب ... مكسري لم تلن لغمز قناتي
وإذا كنت أنت ثقفت عودي ... فحرام ألا أبز لداتي
أنا إما أغوص في بحرك اللج ... ي لا أختشي فأنت نجاتي
وكنت وقفت نفسي على مصاحبته، ونذرتها لتقييد أوابده، وعقل شوارده، وتصيد نوافره. وما أنس لا أنس فائق إعزازه إياي، وإعظامه لي، وثقته بي. وكان ينسبني إذا سئل عني إلى الارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاطلاع على الدليل، ويعزوني في إثبات الحكم على الحجة والتعليل
وهو (حفظه الله) - وقد ذرف على الستين - حفظة لا تخفى عليه اللغة، ولا تغرب عنه الأصول
كان يسابق الفجر، ويسارع إلى النهوض، وطالما رأيته يتوضأ والليل شامل، وكان رأس ما عظمه في عيني دين يستمسك بعروته، وإيمان يعتصم بحبله، كان يتهدج بالقرآن في الغدو، إذا وخط المشيب عارضي الليل، ويرتل الكتاب في الآصال إذا أوشك أن يتخفر النهار، وقد كان ينطق بالفضل، ويتفجر الظرف من جوانبه؛ قال:
وإني وإن دب في المشي ... ب فتي الفؤاد قوي الأمل
أنزه طرفي بروض الجمال ... على رغم من لام أو من عذل