الترام الجاهد يسير محملاً ليس فيه ركن أو ممر أو مدخل أو شبر على السلم إلا ويشغله الراكبون متلاصقين متضاغطين كأنما لم يأتهم نبأ هذا الوباء الذي خوف الناس بعضهم من بعض. . .
وأنا في مقعدي أسأل نفسي متعجباً كيف ينزل من يريد أن ينزل فضلاً عن أن يركب من يريد أن يركب! ودقت باب الدرجة الأولى بد وحاولت فتحه ولكنه لم يفتح لأن شخصاً كان يسند ظهره إليه، وهو لا يستطيع أن يتحرك من موضعه إلا أن يتحرك من يقف أمامه، ولن يستطيع هذا أن يفعل إلا أن يمكنه من يليه. . . واشتد طرق الباب فتضاغط الواقفون، وانفتح الباب ودخل هذه الحجرة المكتظة فتاتان عجبت وعجب الراكبون كيف خلصتا من الزحام حتى دخلتا الحجرة، وما أحسبهما إلا استحالتا هواء فنفذتا من بين الأرجل أو من فوق الرؤوس حتى بلغتا حيث وقفتا بين الواقفين.
ووقف الترام فنزل اثنان من الواقفين وقد شقا طريقهما في جهد من جهة السائق ولم يركب أحد، ثم وقف ونزل ثلاثة ولم يركب أحد، وبقيت الفتاتان فاستندت إحداهما إلى باب والثانية إلى الآخر.
وكانت إحداهما على جانب عظيم من الملاحة والسحر تحدث أثرها في النفوس بنظراتها وبما يبدو من براعة ذوقها في اختيار ألوانها وأشياء زينتها، وكانت الثانية كأنما تصحبها لتزيد جمالها أو لتنبه عليه فقد كانت بحيث أن انتماءها إلى جنسها مما يجعل أحياناً نعته باللطف نوعاً من السخرية. . .
وصوبت الحسناء نظرة إلى شاب كان في سمت بصرها فكأنما نفذت نظرتها إلى قلبه وكأنما أراد أن يبرهن لها على أنه جدير منها بهذه النظرة، فنهض واقفاً ودعا الفتاة إلى الجلوس في موضعه وإنه ليتظرف ويتأنق ويستلين في إشارته وحركته ويلطف في نبرته وعبارته حتى لقد أوشك أن يكون ما ينعت به جنسه من الخشونة ضرباً من التعسف. . .
ونظرت الفتاة وقد استقرت في مقعدها إلى صاحبتها مزهوة دون أن تشكر هذا المتظرف المتلطف بكلمة، وضحكت وقالت عبارة لا هي عربية ولا فرنسية ولا إنجليزية؛ وضحكت