جلست إلى جانبها في عربة يجرها جوادان كريمان، أحدهما أشهب والآخر تغلب في لونه الحمرة، ويقودها سائق فحل عريض المنكبين قوي البنية. وكنا نتحدث في التاريخ الإسلامي، وفي الفن الإسلامي، وفي مجموعة المساجد والمباني الأثرية الإسلامية التي تضمها القاهرة بين أسوارها، والتي لا يوجد لها نظير في بلد آخر. واسترسل بنا الحديث فجعلنا ننتقل بين عصور الفن والتاريخ المختلفة. وكان السائق الفحل يملأ مكانه في خيلاء وغرور، ويسوق جواديه مترفقاً بهما، وهما ينصاعان له هادئين، كأنهما قد استسلما لحبيب يبادلانه الحب، ويعملان جهدهما على إرضائه. ومن وقت إلى آخر كانت السيدة الجالسة إلى جانبي ترسل إلى الجوادين الكريمين نظرة تدليل وإعجاب. ومرت بنا العربة في طريق من طرق القاهرة القديمة التي لم تنلها يد المدنية الزائفة بالتخريب والتشويه، ولم تصل إليها وسائل النقل الحديثة بأصواتها المزعجة. طريق من تلك الطرق الضيقة الكثيرة المنحنيات والتعاريج، والتي تعلوها (مشربيات) البيوت الأثرية من الجانبين، فتترك في أعلاها شقاً ضيقاً يظهر منه القليل من زرقة السماء ممزوجاً بالقليل من أشعة الشمس، وتتخلله مآذن المساجد الشاهقة، شامخة برؤوسها تحدث عن عظمة بُناتها
وصمتت السيدة فصمت احتراماً لها، وجعلت أتطلع إلى منظر هذا الطريق فاستهواني، وتملّكني سحره وانتقل بي إلى زمن مضى، فخيل إلى أنني عدت شاباً فتياً مزهواً بعنفوان شبابه؛ وأنني أجلس إلى جانب فتاة هيفاء ترنو إليّ بعينيها النجلاوين لتزيد من أثر فتنتها في نفسي. وإذ كنت غارقاً في هذه التأملات، سقط شعاع دقيق من أشعة الشمس على رأس الجواد الأشهب، وانتقل منها إلى ظهره، ثم إلى رأس السائق الفحل، ثم أصاب عيني فآلمني وأيقظني وعاد بي إلى الحقيقة السافرة. ونظرت إلى السيدة الجالسة إلى جانبي فوجدتها