أبداً لا تقع عيناي أو لا يقع منظاري على هذا الذي أحدثك عنه إلا اعتلج في نفسي شعور من الهم والخزي يلازمني فترة طويلة بعد فوات المنظر، ويتجدد كلما تجدد في خاطري طيفه، وأنا أكتب هذا على أثر رؤية جديدة لذلك المنظر الذي أنكره أشد الإنكار، وما أزال أزداد إنكاراً له في كل مرة عني في سابقتها.
وإنما أكتب لأدعو القارئ إلى أن يغضب مني، فإن لم يغضب، ومر على هذا الذي أقول مر الكرام، فلا شك عندي أنه قوي الأعصاب جداً - على أحسن تعبير - قوة لا أدري أيحمد عليها أم يذم من أجلها؟!
على أني لا أشك في أن كثيراً من القراء غضبوا مثلما غضبت وسيغضبون كلما وقعت أعينهم على ذلك المنظر البغيض، منظر جنائزنا (البلدية) في أجمل وأعظم أحياء القاهرة العظيمة مهبط السائحين في الشتاء من إنحاء الغرب والشرق!. . .
وللقارئ أن يخطر في باله صورة لجنازة من هانيك الجنائز. . . فهناك في الطليعة أنماط من الناس منهم من يرتدون هلاهيل من القماش كانت من قبل جبباً وقفاطين، ويضعون فوق رؤوسهم ما يشبه العمائم، أو ما يصح أن يكون أبلغ صورة هزلية للعمامة، وكأنما يقول الواحد منهم (متى أضع العمامة تعرفوني) فهو كما أتخيل بل كما أكاد أعتقد يتخذ هذه الهيئة عن عمد ليكون جديراً بأن يظهر في الطليعة! وأنا أرى أبداً هذا الصنف من الخلائق على أشكال متقاربة في صورها.
ويندس بين هؤلاء (الفقهاء) الحمقى فريق من (الجدعان) من أهل الحي الذي خرج منه الميت وهم يخطرون جميعاً في جلابيبهم (البلدية)، وإنما رؤوسهم بأشكال من الطواقي و (اللاسات) وما شئت من أنواع (الكليوش) وألوانه. . .
وينطلق هؤلاء وهؤلاء في نشاط عجيب، وقد تأبط كل منهم ذراع جاره، ويطلقون حناجرهم بأفظع الأصوات وأنكرها، يستجمون لها كل قواتهم، ويمضون في ترديد عبارة حفظوها، أو يتغنون بورد من الأوراد، لا يفترون ولا تكل حناجرهم أبداً، كل أولئك وهم يتمايلون ويتسابقون في النعيق على صورة أجدر أن تكون فرحاً في موت هذا الذي