لعل أكبر أيام الإسلام بل أيام الإنسانية كلها بعد يوم الرسالة هو يوم الهجرة
لقد كانت الهجرة الكريمة بدء عهد عزة الإسلام وانتشاره، عهد الجهاد الإيجابي في سبيل الله بالنفس والمال. إن النبي صلوات الله عليه كان طبعا يجاهد في سبيل الله بالنفس منذ الأول بتعريضه نفسه الشريفة للخطر الشديد في تبليغ الدعوة قبل الهجرة. أما المسلمون قبل الهجرة فكان جهادهم جهاد المستضعفين: كان جهاد صبر على الأذى وتمسك بالدين رغم الاضطهاد، ومن يقرأ تاريخ الإسلام قبل الهجرة ير عجبا من أمثلة ذلك التمسك رغم الأذى البالغ والعذاب الشديد. لكن الجهاد في سبيل الله يجب ألا يقتصر على الجهاد السلبي، جهاد الصبر على الأذى من غير مقاومة إيجابية للمؤذين. صحيح أن المسلم يجب أن يتمسك بدينه وأن يعمل به رغم كل المثبطات ورغم كل الصعاب لكن يجب عليه أيضاً ألا يقر للذل، ولا يقيم على الضيم، فإن الإسلام دين عزة (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين). فإذا وُجد المسلم بدار مذلة، لا يستطيع أن يقيم فيها دينه كما يجب أن يقام، وجب عليه أن يهجر تلك الدار ولو عزت عليه، وأن يهاجر منها إلى حيث يستطيع أن يعبد ربه ويقيم دينه حرا عزيزا لا يخضع إلا لله، ولا يرى لأحد حقا عليه إلا بحق الله
وهذا هو درس الهجرة الأول. لقد هاجر النبي صلوات الله عليه من مكة وهي أحب بلاد الله إليه، وهاجر المسلمون الأولون وقلوبهم تتلفت إلى ما خلفوا وراءهم من الأهل والمال والوطن. تتلفت ولكن لا تؤثر على الدين من ذلك كله شيئا. إذا لم يمكن إعزاز الدين وإحياؤه وإقامة أحكامه إلا بمفارقة ما يعز من أهل ومال ووطن، فليفارقه المسلم ويهاجر في سبيل الله فراراً بدينه وطلباً لإعزازه. (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) وصدق الله
إن واجب الإنسان الأول هو واجبه نحو خالقه الذي خلقه ورزقه الأهل والولد والمال والوطن. الأهل والولد والمال والوطن والنفس من اجل نعم الله على الإنسان، لكن من الحمق أن يجعل الإنسان نعم الله عليه سبباً لمعصية الله أو الكفر به، من الحمق المطبق أن