لقد كان التطلع إلى الأحداث الجارية منذ يوم الهدنة التي أعقبت الحرب الكبرى في البلاد الشرقية المجاورة لنا، ديدني، والسفر إليها غايتي، ومعرفة بواعث النهضات الرائعة التي نهضها أهلها، مقصدي. وكنت أحاول البدء بتركية التي أحسن لغتها وألمُّ بعض الإلمام بأدبها القوي في حيويته الرقيق بجماله، فلم أوفق. على أني قد وفقت في العام الثاني والثلاثين والتسعمائة والآلف، لزيادة بلاد الجارة الصديقة إيران، وكنت يومئذ تعباً جداً من لغوب الحياة الراكدة، سائماً أيامها المتوالية المتكررة عندنا في غير ما انبعاث صحيح، ولا انقلاب من العهد القديم إلى عهد الدنيا الحديث؛ نازعاً إليّ اغتراب أنسى فيه، إلى حين من الزمن، الآم المتطلعين من أبناء الشعب الصابر النبيل، إلى حياة هنيئة حرة في مجد جديد يرام كالمجد القديم؛ وقد أسمع وأرى ما يذكر ويفيد
غادرت بغداد شاخصاً إلى طهران مساء اليوم السابع عشر من شهر ايار، مستقلا قطار خانقين. وفي فجر اليوم التالي بلغت هذه البلدة الصغيرة التي يتكلم قطينها شتى اللغى، لأنها بلدة الحدود ونافذة العراق المطلة على إيران. وقد فكرت فيها والأسف يحز في قلبي كائنة المغول الأولى، إذ جاءوها في محرم الحرام من العام الثالث والأربعين والستمائة للهجرة، نازلين إليها من همذان ففتحوها ثم قربوا من يعقوبا؛ وكانت بغداد سكرى في غفلة عن الزمن القلب الحوّل والأقدار الغادرة. ولم يفعل خليفتها ووزيره وصحبهما سوى التهيؤ - التهيؤ فقط - للدفاع بأجناد من الخلائق فقدت المثل العليا، فخارت عزائمها ووهت بعد مرّة، إذ أوهنها تخنيث الترف، وتبلبل العقائد، وانحطاط الخلق، واضمحلال روح الاستقلال، ثم أرتد المغول عنها متحفزين لهجمة ثانية قاضية. وكذلك فعلوا، فقد عادوا مرة أخرى في العام الخامس والخمسين بعد الستمائة للهجرة يقودهم هلاكو. . .
لم أقم في خانقين التي كانت طريق البلاء الأكبر النازل على العراق بعد ازدهار الحضارة العربية الإسلامية فيه، إلا ساعتين. واكتريت لي سيارة رافقني فيها إلى كرمانشاهان تاجر أيراني ذو سجاحةٍ وظرفٍ. ثم جاء بعده عقيب السري منها مسافر عراقي من مشايخ العلم، تراءت لي في محياه دلائل الحماسة في الدين، وفي سلوكه دلائل الحماسة في القومية. فهو