للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عربي من أهل النجف، يدرك روح العصر بعض الإدراك، على ميل شديد فيه إلى الماضي، وحنين إلى دولة العرب في أيامهم الذهبية التي خلت من قبل. وكان سميراً من الطراز الأول، ورجلا يصلح، لو أدرك روح العصر كل الإدراك، لأن يكون قريباً من الكمال الإنساني المجرد من الصفات التي يخلعها على الإنسان في المجتمع نضال المتعصبين في الملل واعتراك النحل وتصادمها. وهو - كما كان يقول - من العاملين لآخرتهم كأنه موشكٌ أن يموت غدا، ومن العاملين لدنياهم كأنه يريد أن يعيش أبداً. وقد حداني الحديث ذو الشجون إلى أن أساله: من السعيد في الدنيا أيها الشيخ الفقيه؟

فأجابني وهو يعبس بمسبحته السوداء: ومن ذا الذي تعني؟ آلسعيد من أهل السياسة؟ آلسعيد من أهل الحرب والطعان؟ آلسعيد من التجار؟ آلسعيد من المحترفين خدمة الحكومة بأعمال الدولة؟ آلسعيد من ذوي الحرف والصناعات؟. . الخ

فحيرني تَسْآله هذا، وأعجبت بمنطقه، فقلت وقد أدركت بعض قصده: من السعيد من الطبقة التي ينتمي إليها أنت يا شيخي؟

قال: أحسنت. لقد حددت التعريف فأنصفت. . السعيد منا نحن رجال العلم القديم والدين من صح فيه قولُ عمر بن عبد العزيز الوراق لأبي بكر بن حزم: (إن الطالبين الذين أنجحوا والتجار الذين ربحوا هم الذين اشتروا الباقي الذي يدوم بالفاني المذموم، فاغتبطوا ببيعهم، وحمدوا عاقبة أمرهم. . . فالسعيد الموفق من أكل من عاجله قصداً، وقدم ليوم فقره ذخراً، وخرج من الدنيا محموداً. . .)

قلت: يا شيخي هذه فلسفة صوفية قد تنافي - إذا كنت مقتصراً عليها - ما زَعَمتَ لي إذ قلت في بعض حديثك أنك من العاملين للآخرة ومن العاملين للدنيا فأهملت الدنيا هنا؟ أليست هي على رأيك: (الأمر الفاني المذموم).

قال: إذن لابد من إيضاح. . أن أمرها لفان ومذموم لأمثالي إذا ما اقتصرنا في الحياة عليه. وهذا التشديد في ذمها صمام أمننا، لأننا صرنا إلى حال لا تسر المؤمن المحض؛ وإذا كان هذا العصر عصر الاختصاص، فإننا قد بعدنا - إلا الأقل الأندر منا - عن اختصاصنا وهو العمل بروح الدين ورحنا نتطلع إلى مطامع الدنيا، وحطامها، فنسينا النصيحة والدين هي، واقبلنا على كل ما فيه زهو وغرور. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>