لقد اتفق لي منذ سنين خلت أن ضمني مجلس في إحدى القرى مع بعض العلماء المجتهدين - بعرف أنفسهم - وكان فيمن حضر هذا المجلس ضابط فلسطيني من إخواننا أهل السنة. وما أن استقر المقام بالجميع حتى تنحنح فضيلة العالم وانطلق يتحدى في كلامه مواضع الخلاف بين أهل السنة والشيعة بكل ما في نبراته من اعتداد بأحقية الشيعة، وبكل ما في قلبه من حرص على توجيه الأنظار نحوه، وبكل ما في لهجته من عنجهية ونبو عما تقتضيه اللياقة من الاحتفاء بالضيف الفلسطيني ومراعاة عواطفه كمسلم سني أو كرجل قانون لا رجل دين يحسن الجدل ويستسيغه في مثل هذه الموضوعات: وكان بيت القصيد في حديث مولانا الاجتهاد وخطره - من حيث الإباحة والحظر، وأثر ذلك إيجاباً وسلباً في الدين والعلم والعقل أيضاً، ثم كيف أن الشيعة - دون غيرهم من الفرق الإسلامية - استقلوا بهذا الفضل وفاقاً للأحاديث النبوية، وطبقاً للمأثور من أقوال العلماء والحكماء والمؤرخين، وما إلى ذلك من شواهد على فضل الاجتهاد وفوائده. كل ذلك جرى والضابط الفلسطيني واجم تحاشياً لهذا المجتمع الشيعي وتهيباً من هذا العالم الأرستقراطي الذي لم يترك مجالاً لغيره في الكلام، أو جهلاً بالموضوع، أو استخفافاً بالتحدث عنه لغير مناسبة لا أدري؛ غير أن هذا الحديث أثار حفيظتي من العالم لا لشيء سوى أن يتملق العامة بالانتصار لمذهبهم أمام رجل سني، كما استفز عواطفي هذا الوجوم من رجل غريب بروحه وميوله عن المجلس قد فوجئ بما لم يكن يترقبه ويألفه من حديث، فاندفعت للاعتراض بما أوحته إليّ هذه الحال من خواطر وأفكار يمكن أن يفترضها ويقدرها الشيعي وغير الشيعي من المسلمين إذا اضطره الأمر إلى أن يتجرد من عصبيته، وأهاب به المقام للتمسك بكل ما يمكن أن يقال في تحرير موضع النزاع. ولكن مكان مثل هذا العالم في مثل هذا المجلس من العامة لم يدع سبيلاً إلى إتمام كلامي وتوضيح مرادي، بل اضطرني كما اضطر غيري إلى السكوت والإصغاء لو كان في الإمكان أن يسكت الفكر العنيد، أو يرتاح الضمير الحر بدون أن يفضي بمكنونه ويفرغ سورته في قالب من اللفظ وسمط من البيان،