تصاحب هذه الحقيقة المرة رأسي منذ زمن بعيد، ويقوم بيني وبين نفسي من أجلها جدال عنيف؛ فلا أنا قادر على أن أفلتها لتجد لها مكاناً عند غيري، ولا على أن أدعها تقض مضجعي وتلهب رأسي. . وليس شك في أني تركتها تؤرقني طوال هذا الزمن، فلم أفض بها إلى مثل هذه السطور، خوفاً على نفسي وإشفاقاً وفرقاً. . فكلما تمثل في خيالي وصح في ذهني أن مئات من الناس يبقون على هذه الصناعة - صناعة الشعر - ويخلصون لها، ويؤمنون بها، ترددت في الكتابة، ثم أحجمت. .
على أنني - وقد آمنت بهذه الحقيقة منذ كان شوقي قائماً بيننا يملأ الدنيا صدحاً وتغريداً، ومنذ كان غيره من فحول الشعر لا يزالون في الميدان صوالين جوالين - أحسبني اليوم قادراً على أن أبوح بما آمنت به، بعد أن خلت عرائن الأسود إلا من الأشبال، وبعد أن تقدم بنا العصر بضع خطوات كفيلة بأن تقصي على دولة الشعر أي قضاء. .
ذلك أن الشعر لم يصبح مما يسيغه ذوق عصرنا هذا، ولا أصبح قادراً على أن ينهض على قدميه أو يواصل سيره في سبيل البقاء. وسأحاول على هذه الصفحات على أن أبسط ذلك بعض البسط، مترفقاً في محاولتي عازفاً عن المبالغة. وفي يقيني أنني سأخرج من هذه الكلمة الهادئة، وإلى جانبي غير قليل من القراء الكرام. . فأما الشعراء والمؤمنون بهم، فلست أخشى اليوم نقمتهم أو أشفق مما عساهم يفعلون.
ولقد يدرك القارئ أني لا أحاول أن أنتقص من قدر الشعر القديم أو أكفر برسالته، فأنا عن مثل ذلك عزوف عفيف. . ولكن الذي أقول: هو أن رسالة الجمال والفن في ذلك الشعر القديم ليست خالدة ولا باقية على الأيام؛ وبحسب الشعراء الأقدمين أنهم قاموا على تأدية هذه الرسالة في عصورهم وأزمانهم، وأنهم صوروا بشعرهم صوراً بهرت نفوس ذويهم وأقوامهم ومعاصريهم؛ بل إن تقدير الزمن قد امتد بآثارهم عصوراً أخرى غير تلك العصور. . ولكن نتاجهم هذا لم يعد راوياً لظمأنا نحن إلى الجمال، مصوراً في صور تهز نفوس أبناء هذا العصر الحديث الناظرين إلى الحياة بغير منظار السادة الأولين. . وكل ما بقي لنا من آثار ذلك السلف الكريم لا يعدو أن يكون ثروة لفظية ولغوية تقوم منا اللسان