فترات تقصر أحياناً، وأحياناً تطول وتطول، ليس يعنيني أن اعرف أهي من صفاء الذهن وراحة البال، أم ضجر طارئ وملال، اعكف فيها على القراءة والاطلاع، فأذهب إذا ذاك إلى دنيا غير هذه الدنيا، ويغمرني إحساس غير ما يغمرها من إحساس، وسأخفق أن حاولت أن اظفر بتعليل لهذا العكوف: أتدفعني إليه رغبة الأعراض عن حقائق الحياة خشية الاصطدام بها، أم يغريني به نزوع إلى تفهم هذه الحقائق ونشدان هذا الفهم فيما ضمته صفحات الكتب من عصارة الأذهان؟
لن اظفر بجواب قاطع، ولا يعنيني أن اظفر به، إنما أؤكد انه ليس احب إلى نفسي في مثل هذه الفترات من أن أتناول بيدي أثراً من آثار (ديكنز) معبود الإنجليز ومهبط وحيهم بعد شكسبير، وان اذهب معه في سلسلة من الرحلات نغشى في خلالها رياضا من الأمل الواسع العريض فنستنشق العبير ونتفيأ الظلال، ثم نروح تائهين في صحارى من الشقاء، فنكتوي بلافح الحر وقاسي الهجير، ثم لا نحرم في هذا المدى الترامي من الشقاء القاحل ان نلمح واحة الرجاء من بعيد فنتسابق إليها نتقي وهج الحر ولفح الهجير، ولكنا لا نأمن بين الحين والحين على أقدامنا وجسومنا ان تدميها أشواك من إلياس والخيبة، ثم لا نلبث ان نرتفع على أجنحة الخيال إلى سماء من السعادة والثراء.
وديكنز في هذه الأثناء لا يفتأ يحدثني في لهجة تلين وترق حتى لكأنها حفيف الأشجار وموسيقى الالهة، ثم تعلو وتشتد حتى لكأنها دوى العواصف وقصف الرعود، يروح يحدثني عن القناعة وعن البؤس والبائسين، ويحدثني أيضاً عن التمرد وعن الظلم والظالمين، وكأنه يسكب على جراحات التمرد من نفسي بلسما من القناعة والرضا، ولكنه لا ينى بعد ذلك ان يمزق بيده ما عالج من جراحات في قسوة الحقيقة وعنف الواقع، بينما هو يتحدث إلى في لهجة يفعمها الألم والغضب عن استبداد الغني بالفقير، وعن افتراس القوي للضعيف، ويهيب بي وبقارئيه جميعا في فكر عنيف وفي لفظ ملتهب شديد: ان ارحموا البائسين ودافعوا عن المظلومين!! ذلك هو ديكنز الكاتب الإنجليزي الكبير الذي يملأ عين