القارئ بالدموع وفمه بالضحكات في الفترة الواحدة! والذي يمزج الجد بالهزل، ويخلط الحكمة بالدعابة، ويسوقها جميعا في كتاباته طعمة سائغة فيها تنوع وجدة، وفيها قوة وحق وجمال.
وقد يعلم القارئ إن ديكنز مات عن ثورة كبيرة تبلغ عشرات الألوف، فهو إذن قد ذاق حياة الترف والثراء وتنعم بها، وهو لهذا لم يعجز عن تصوير هذا الضرب من المعيشة تصوير فنان خبير، ولكنك إذ تقرأه وهو يقص تاريخ طفولته الحزينة القاتمة وما لاقاه أبانها من صدمات متتالية ومن متاعب جمة مع شظف العيش والحرمان، لابد ستأخذك رعدة عنيفة من فرط التألم لهذه الطفولة المعذبة الشهيدة، وستعلم السر آنئذ في قدرة ديكنز على التعبير عن الأم البائسين وشقاء الفقراء والمعوزين تعبيرا رائعا مفعما بالحياة.
وليس يخلو مؤلف لديكنز من آهات متوجعة، ومن صرخات حزينة، ومن دموع ملتهبة، يسكبها في غير حرص أو تقتير على مذبح الإنسانية المضطهدة المعذبة، إلا انه لم يكن في كتاباته ناقما عنيفا إلى الحد الذي يثير الفقراء على الأغنياء ويدفعهم إلى إلحاق الأذى بهم، بل كل ما كان يرمي إليه أن يهز النخوة ويلين القلوب ويستدر منها العطف والرحمة والإيثار. . .
ولد ديكنز عام ١٨١٢ وعاش ثمانية وخمسين عاما قاسى في العقدين الأول والثاني منها ما قاسى لفقر والديه المدقع ولزجهما في السجن وفاء لديونهما، ولكنه بدأ يرقى سلم المجد منذ استهل العقد الثالث. . . واشتغل في أوائل شبابه بالصحافة فكان مخبرا لبعض الصحف، ثم مندوبا برلمانيا فمحررا، فكان بحكم عمله هذا مضطرا إلى ان يزج بنفسه في كل بيئة، وان يختلط بكل طبقة ويعاشر كل طائفة من الناس، فاكتسب خبرة وافية بمختلفة الشخصيات ومختلف النفسيات بعد دراستها دراسة وافية، فأفاد كل الفائدة بهذه الخبرة، إذ تيسير له ان يوفق إلى أبعد حد في تصويره للشخصيات المختلفة التي تناولها في قصصه ورواياته.
ويشبه ديكنز من هذه الناحية بعض الشبه (ولز) الكاتب الإنجليزي المعاصر الذي اشتغل بالصحافة فأصبح لا يكف عن التعرض لمشاكل العالم الاجتماعية الراهنة والاجتهاد في معالجتها وفرض الحلول المختلفة لها في أسلوب رائع مفيد، بيد أنه على الرغم من هذا لن يكون الخلود من نصيب كتبه، لأن قيمتها موقوفها على الجيل الذي عاش فيه، وان طال