اجلها فلن تتعدى الجيل الذي يليه، إذ سيجد العالم المتطور إذ ذاك إن كل ما جاء بها من نظريات ومبادئ قد تحقق جميعه أو جله، واقتصرت أهميتها على الناحية التاريخية دون غيرها، ذلك (لان النزعة الصحفية في الكاتب إنما تعمل لفنائه لا لخلوده، وهذا الفناء هو في الواقع تضحية الكاتب بنفسه في سبيل جيله) على حد قول بعض كتابنا الاجتماعيين.
وإذا صدق هذا الرأي عند تطبيقه على (ولز) الذي لم يكترث لغير علاج المشاكل الاجتماعية فهو لا يصدق إذا أرسلناه على إطلاقه، وخاصة إذا أردنا تطبيقه على ديكنز.
صحيح أن ديكنز قد كتب معظم قصصه الرائعة للصحف إذ ذاك، ولكنها ستظل خالدة على مدى العصور، خلود ما فيها من قوة ومن حق ومن جمال، ولأنها انتزعت من صور الإنسانية انتزاعا، فملأتها عواطف هذه الإنسانية التي لن تتغير، اجل، وستظل خالدة لأنها صورة من الفن الخالد رسمتها ريشة أديب فنان سيعيش تراثه على مدى العصور، وليست موضوعا اجتماعيا يتغير ويختلف وفقا للحوادث والظروف، ويزداد مقدار ما فيه من الصحة أو يقل تبعا لقدرة كاتبه على وضع الفروض والاحتمالات الصحيحة والاستطراد منها إلى تقرير نتائج يثبت المستقبل القريب أو البعيد صحتها، فولز إذن ليس كاتبا اجتماعيا فحسب، ولكنه كاتب ثاقب البصر بعيد النظر، صادق الفراسة، سليم المنطق والاستدلال. أما ديكنز فأديب فنان ينقل إلينا أحاديث الطبيعة والإنسانية وعواطفها، ويعبر عنها جميعاً اصدق تعبير وأجمله، وهو في مهمته السامية لا يختلف بأي حال عن المصور المبدع أو الشاعر المطبوع. في الحق انه يكفيك أن تقرأ أي كتاب لديكنز حتى تصل إلى هذه النتيجة الصحيحة عنه دون لأي دون إجهاد.
والأديب إذا تناول أي موضوع من المواضيع التاريخية أو الاجتماعية - أو حتى الاقتصادية الجافة - وجعله مادة لكتابته تراه لا يفتأ يرويه بدماء قلبه الحية ويغذيه، ولا يفتأ يسبغ عليه من روحه ونفسه وشتى عواطفه واحساساته، حتى يبعث في الحياة بكل معانيها وصفاتها، ويكفينا إذا أردنا تطبيق هذا القول على ديكنز ومخلفاته الأدبية ان نستعرض كتابه أو بتعبير أدق طرفته الفنية الرائعة (قصة عن مدينتين) فتؤمن بصحته كل الإيمان، نعم! فبالرغم من ان موضوع هذه القصة تاريخي جاف وهو تاريخ الثورة الفرنسية، وبالرغم من انه تاريخ دموي مروع تقشعر منه الأبدان، وأنه غير حديث العهد بنا، فإننا مع