للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[المدنية والإنسان]

(أن المدينة التي لا تصون نفسها من الدمار، لا يمكن أن

تصون الإنسان)

للأستاذ حسين الظريفي

كثر الكلام عن عناصر المدنية ومظاهرها، وما لها من فعل وانفعال في كل أبناء الحياة، وكان من البداهة أن يزيد تأمل الإنسان فيما دخل عليه في وسائل معاشه وطرق تفكيره، وفيما وراء ذلك من مظاهر النفس والشعور؛ فالمدنية الحديثة لم تدع شيئاً لم تأخذه بنصيب، من بعيد أو من قريب، فلم تقف عند حد الوسط الذي نشأت فيه، وإنما فاضت عنه إلى خارج الحدود، وإلى ما وراء البحار والجبال وكل حاجز أقامته الطبيعة في قرونها الطوال، ولم تتناول مظهراً واحداً من مظاهر الحياة، وإنما جمعت كل هذه المظاهر ووضعتها في موضع المحو والإثبات، فأخرجت للناس مظاهر جديدة عليها طابع من التفكير الحديث وما يلي التفكير من إرادة ومن عمل، ومن نتائج خطيرة تبطل دونها كل محاولة مقابلة.

على أن صراعاً قام ولم يزل قائماً بين ما وصل إليه العلم الحديث من فهم للحقائق وقيام بالعمل، وبين ما يجر هذا العصر وراءه من تراث عقول خلت منذ أن رأت الأرض أول هلال في الأفق. وما زال الصراع قائماً في حرب تستحرّ هنا وتخف هناك، فتتغير الحقائق وتتبلور ثم تنصب في شكل جديد تؤثر على الناس فيما لديهم من وسائل الحياة، وفيما عندهم من أساليب الفكر والبيان.

لقد كانت تبشرنا المدنية الحديثة بإحلال الرخاء في كافة الأرجاء، وكانت أبلغ كلمة تخرج من أفواهها تلك التي تصور الشعوب في وحدة كاملة شاملة غير متنافرة الأجزاء، تفاهمها دائم، وسعيها وراء الصالح العام.

تلك أمنية تملأ خيال كل مفكر، وتسيل على لسان كل ذي بيان؛ إلا أن مدنيتنا الحديثة كانت تحاول إلهامنا اليقين في قرب حلول الساعة التي يكون فيها الناس أمة واحدة، فشحذت العزائم وانطلقت الجوارح تعمل في هذا الحفل، والجميع يأملون ويعملون.

كان في الإمكان أن يتعارف الناس على غير ما تعارفوا عليه طيلة القرون التي خلت.

<<  <  ج:
ص:  >  >>