ولكن ليس كل هذا ما فقدناه من أحاديث الجاحظ وآثاره في المرح والدعابة فأن له كثيراً من الطرائف والملح التي ضاعت بين سمع الأرض وبصرها، وطوتها الأحداث بين أجواء العصور الخالية، فلم يبق منها إلا معالم كأنها معالم الطود قد استبد به الزمن ومحقته العواصف القاسية. وهانحن أولاء نكتب عن دعابة الجاحظ وليس بين أيدينا من مصادر البحث إلا وشل من معين، فكل ما هنالك جملة من النوادر المبعثرة في بطون الكتب يتلمسها الباحث بشق النفس، مع أن الرجل قد جرد في ذلك كتبا ورسائل تدل أسماؤها على أنها قد ضمنت ألواناً من الدعابة والمزاح، وأترعت بفنون من النوادر والمضاحيك. وتلك الكتب على ما ذكر الجاحظ نفسه وعلى ما قال بعض الباحثين: هي كتاب الملح والطرف، وما حر من النوادر وبرد، وما عاد بارده حاراً لفرط برده حتى أمتع بأكثر من إمتاع الحار ثم كتاب المزاح والجد، وكتاب خصومة الحول والعور. وكتاب المضاحيك، ورسالة في فرط جهل الكندي يعقوب بن إسحاق أول من اشتهر في الإسلام بالعلوم الفلسفية وما إليها. والظاهر أن الجاحظ قد ساق هذه الرسالة في التندر على هذا الرجل والتهكم به كمثل صنيعه مع أحمد بن عبد الوهاب في التربيع والتدوير. . . ثم أين نحن بعد هذا كله مما كتبه الجاحظ إلى إخوانه وخلطائه (من مزح وجد، ومن إفصاح وتعريض، ومن تغافل وتوقيف، ومن ملح تضحك، ومواعظ تبكي. . .)، بل أين نحن مما أفرغه في جميع كتبه ومؤلفاته من النوادر والمعابث، وقد كانت تلك طريقته وذلك صنيعه، وهو الذي يقول في وصف الكتاب:(ومن لك بوعاء ملئ علماً، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحاً وجداً، إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فرائده، وإن شئت ألهتك طرائفه. . .)
فيا لها من ثروة كبيرة تلك التي وفرها الجاحظ في باب المزاح والدعابة. ولو أن الزمن قد أبقى لنا على كل هذه الثروة لفزنا بكثير، ولوقفنا باليقين على اتجاهات الرجل وما كان له من قدم في مسالك هذا الفن وضروبه؛ أما وقد خسرنا هذه الصفقة، فليس إلا أن نسير في البحث على قدر تلك الإثارة التي بقيت لنا من أماليح الجاحظ على الرغم من مغالبة المحن