وقسوة الأحداث، وأن فيها ما قد يجدي في البحث، ويغني في الوقوف على مقاصد الرجل من دعاباته. ولعل أهم تلك المقاصد وأجلها إنما هو التهكم؛ ولعل الجاحظ لم يبرع في ناحية من مناحي الدعابة كما برع في تلك الناحية وتفنن، فهو عجيب في تهكمه؛ تنظر إلى إحدى غمائزه فلا تدري إلى أي جو قد نقلك الرجل، ولا ما ثم من أشتات المعاني التي قد أوردها على ذهنك وأثارها في نفسك، فهو يحاور ويداور. ويصطنع أسلوبا ملتوياً له ظهر وله بطن، وفيه لين وفيه قسوة، وبه طرافة وبه جفوة؛ وقد يقف من القارئ موقف المتسائل، ويسير معه سير المتجاهل، فكأنه يريد أن يتهكم أيضاً بالقارئ على غفلة. وليس هذا كله إلا علامة القدرة ودليل الطبع؛ وإنما كان الجاحظ موهوباً في تهكمه، ساخراً بطبعه؛ ومن ثم لم يقف في تهكمه عند حد الدعابة والعبث، بل لقد كان يتناول ذلك في كثير من نواحي فنه، فهو أداته في الهجاء والتقريع، والنقد والتعريض، والجدل والمناظرة، وما إلى ذلك من مواضع الأخذ والرد والنظر والبحث. ألا تراه وهو ينتقد الخليل بن أحمد إذ صنف في علم لم تجتمع له أداته، ولم يتوفر له شرطه فيقول:(والخليل بن أحمد من أجل إحسانه في النحو والعروض وضع كتابا في الإيقاع وتراكيب الأصوات وهو لم يعالج وتراً قط، ولا مس بيده قضيباً، ولا كثرت مشاهدته للمغنين. وكتب كتاباً في الكلام ولو جهد كل بليغ في الأرض أن يتعمد ذلك الخطأ والتعقيد لما وقع له ذلك. ولو أن ممروراً استفرغ قوى مرته في الهذيان لم يتهيأ له مثل ذلك، وما يتأتى مثل ذلك إلا بخذلان من الله الذي لا يقي منه شيء. ولولا أن أسخف الكتاب، وأهجن الرسالة، وأخرجها من حد الجد إلى حد الهزل، لحكيت صدر كتابه في التوحيد، وبعض ما وضعه في العدل!)
فهذا أسلوب من النقد الساخر الذي كان يصطنعه الجاحظ وإنه لأسلوب شديد الوطأة، وإنه بالهجاء لأشبه. فهو كما ترى يطلب (أولا) مرتبة لتصنيف الخليل هي أحط مراتب الضعف والتهافت، فيضعه دون الخطأ (يتعمده) كل (بليغ) في الأرض (جهده) ولكن هذه المرتبة الدون لا تقنع الجاحظ، فيعود (ثانيا) فيجعله عدلا (لهذيان) الممرور قد (استفرغ) كل مرته في الهذيان؛ وهذه أيضاً لا تقنع الجاحظ ولا تشبع نفسه، فنجده (أخيراً) يحكم على صنيع الرجل بأنه ضرب من الضعف لا يتأتى لطبيعة بشرية إلا (بخذلان) من الله، ثم زاد فجعله سخفاً وهجانة لو حكاه لخرج بالقارئ من حد الجد إلى باب الهزل. وهذه مداورة من