غاية الأزهر التي أتجه إليها منذ أكتمل أمره أن يفقه الناس في الدين وفيما تفرع عن أصوله من شتى العلوم؛ وسبيله إلى هذه الغاية أن يعلم اللغة وما أتصل بآدابها من مختلف الفنون؛ فالدين واللغة إذن هما علة وجوده وجوهر علمه وثمرة عمله. ومن مزية الإسلام أن يمرن مع الزمن ويتجدد بالعلم ليلائم كل عصر ويعالج كل حالة. ومن طبيعة العربية أن تتطور مع الجماعة وتتسع بالحضارة لتعبر عن كل معنى وتدل على كل ذات. وكان من ثمر هذه المرونة في الدين هذا الفقه العالمي العجيب، ومن أثر هذا التطور في اللغة هذا الأدب الإنساني الخصيب. فلما تدفقت الخطوب على حواظر الإسلام والعروبة فمال الميزان ودال السلطان وأنتقض الأمر وعجز العقل، جهل المسلمون مرونة دينهم فأغلقوا باب الاجتهاد، وأنكر العرب تطور لغتهم فصدوا عن سبيل الأدب. وتقدم الغرب وتأخر الشرق، وسيطر العلم وتعطل الإسلام، وتطور التعليم وجمد الأزهر، وولى المصريون وجوههم شطر أوربا يأخذون عنها ما كانت أخذته عنهم، ثم استأنفوا السير في ركب الحياة. ولكن الأزهر ظل في موقفه فلم يسر، وأخذته الصيحة من كل مكان فلم ينتبه، وسألوه أن يمدهم بشيوخ الدين ورجال العربية وهما غايته ووسيلته فلم يستطع. حينئذ اضطر أولوا الأمر إلى إنشاء (دار العلوم) لتعليم اللغة، ثم إلى إنشاء (مدرسة القضاء) لتطبيق الشريعة، وتركوا الأزهر المعمور متحفاً لآثار غير ثمينة من الكتب القديمة والآراء العقيمة؛ يتعبد بألفاظها قوم من فارغي القلوب قد اطمأنوا إلى الخمول، ورضوا بالدون، وعاشوا على فضل الناس، حتى دخلت النهضة المصرية في أوائل ربيعها المزهر، فهب كل وسنان وأنتعش كل ذابل. وتيقظ الأزهريون من رقادهم الطويل فإذا هم عراة من حلل الثقافة الحديثة؛ فطفقوا يخصفون على سوءاتهم مما تناثر حول الأزهر من ورق الربيع؛ ولكنهم ظلوا متميزين من سائر المصريين بهذا الورق الذي لا يدفئ ولا يستر، فنزعوا بأنفسهم عن معرة التخلف، وتنافسوا في اقتباس المعرفة، وأرادوا الدين للدنيا، وطلبوا العلم للحياة، وهتفوا وهتفنا معهم بالإصلاح. ولكن بقايا الراقدين على حطام الماضي يفزعون من هذا الإصلاح لأنه يجرفهم كما يجرف السيل الهشيم! فهم يلقون بأجسادهم إلقاءً في طريق