نعم، يضحك ثغر الإسكندرية اليوم بملء شدقيه، وعلى مضاحكه الغر العذاب سمات، وفي ضحكاته المرجعة الموقعة دلائل! يضحك بعد أن قضت عليه الحرب بالعبوس المظلم ست سنين لم يسكن فيها روعه، ولم يرقأ دمعه؛ فهو يضحك ضحكة الشامت بخطوب طغت ثم زالت، ودول بغت ثم دالت، وقوم أرادوا أن يسخروا الأقدار فسخرت منهم، وطمعوا أن يصرفوا الخطوط فانصرفت عنهم، ومغتر أشار إلى بحر العرب وقال له بحرنا؛ فقال له القدر الراصد: بل قل إنه قبرنا!
والثغر يضحك من القاهرة كما يضحك أبيقور أو أبو نؤاس من الكلبيين أو المتزمتين الذين اتخذوا الحياة جداً من غير لهو، وعبوساً من غير طلاقة، وسعياً من غير جمام، وخصاماً من غير بقيا، وعراكاً من غير هدنة؛ ويقول وهو ينظر إلى البحر العاصمة التي تنظر إلى الصحراء: إن الحياة زبد ورمال. وموج وجبال؛ ففيها الصلابة والمرونة، وفيها الرصانة والرعونة، وفيها العبث الذي يفور ويذهب، والجد الذي يطمئن ويمكث؛ وفيها المرح الذي يكتسي جمال الحياة، والوقار الذي يرتدي جلال الموت. وهيهات أن تصلح الدنيا على المعالجة، إذا لم تساعدها الطبيعة بهذه المزاوجة!
والثغر يضحك للقاهرين الذين يتهالكون من الجهد على أحضانه، ويترامون من الكلال فوق شطآنه، ويقول لهم: تعالوا إلى الصفاء المحض، والسرور الخالص، والوداد المصفق، والشعاع الذي يعافى الجسد، والنسيم الذي يرد الروح؛ ودعوا القاهرة للساسة الذين أوقدوا فيها نار الخصومة فزادوا وهجها، وضاعفوا رهجها؛ وخلوا للزمان الحكم لهم أو عليهم، فإنه لم يبق منهم أحد إلا اتهم الآخر؛ فإن كان ما قالوه حقاً فليس فيهم صالح، وإن كان ما قالوه باطلاً فليس فيهم صادق!
والثغر يضحك عند استانلي باي! وخليج استانلي كخليج عمان؛ إلا أن اللآلئ هناك تغوص وهي هنا تعوم. ولآلئ عمان مصونة في الأصداف لا تنال إلا ببذل النفس؛ أما لآلئ استانلي فعارية مبذولة للنظر واللمس! ومن لآلئ عمان ما يباع بخزانة في مصرف أو مساحة في منجم، ولكن من لآلئ استانلي ما يباع بقدح في حانة أو عشاء في مطعم! وهذه أروع ما برأ الله في العالم الناطق، وتلك أبدع ما صاغت يده في العالم الصامت، ولكنه فضل الصون على الابتذال، وفرق ما بين الحرام والحلال!