كنا ليلة النيروز المسيحي نسمر في دار صديق؛. . ولهذا الصديق زوجة من لوزان، دقيقة الفهم، رقيقة الشمائل، لطيفة التكوين؛ أغرمت بمصر وأخلاق أهلها اغراماً شديداً، فهي تحاول أن تتكلم الغربية، وتؤثر أن تعيش على الأوضاع المصرية، وتتابع بالنظر العطوف نهضتنا المجاهدة، وتدافع بالحجة القارعة ما تفتريه علينا الألسن الأوربية الجاحدة، وتحب كلما حضرت مجلسها أن تناقلني الأحاديث في مصر والعرب والإسلام والشرق، وهي في كل ذلك واسعة الاطلاع من طول ما تسافر ومن كثرة ما تقرأ.
كان زوجها وفريق من المدعوين يلعبون الورق على المائدة المغرية، وكان فريق آخر يستمع إلى (الراديو) وهو يذيع الأناشيد الكنسية المهللة، وأنا وهي على كرسيين متقابلين أمام المدفأة، نتجاذب على عادتنا أطراف الحديث المشقق، ونتصفح على طريقتنا أوجه الرأي المختلف، فأجد في حديثها الشهي الممتع ما يجده ذلك الذي يلعب، وذاك الذي يشرب، وهذا الذي يسمع!
تناهزت النفوس الحبيبة لذة الصفو في الساعات المودعة، وتجاوبت في البيع القريبة أصوات النواقيس المرنة، وتلاقت الحياة والموت في قلب الليلة المخضرمة، وتهتكت سدول المهد المحجب عن العام الوليد؛ فقالت لي ساعتئذ والرفاق يتبادلون المودة بالعيون، ويتناقلون التهنئة بالشفاه:
انظر كيف يولد العام المسيحي في بقاع الأرض!! إنه يولد كما يولد الأمل المعسول في النفوس المرحة الغضة، فالكنائس تعج بالصلوات المستبشرة، والمنازل تفيض بالمسرات المتجددة، والعالم الغربية كله لا يذكر في هذه اللحظة عاماً دفن مع الأمس، ذوت فيه نواضر المنى، وذهب معه بعض العمر، وإنما يذكرون عاماً يولد مع اليوم، فتستأنف نشاطها فيه، وتستمد رجاءها منه، وتستقبل حدثان الغد بالثغر الباسم والعزم الصارم والنظر الرغيب. . وما أدري - وقد نشأت في ربوع الغرب وطوفت في بعض أنحاء الشرق - لماذا كان المسلمون وحدهم اليوم رماد الموقد المضطرم: يتحرك بهم الفلك وهم ساكنون، وتتفجر عليهم الأحداث وهم غافلون، ويلقون في مراغة الذل وهم راضون، وتؤكل بهم أرزاق الأرض وهم قانعون، ويجادل عنهم خصومهم وهم ساكتون؟ أيرجع ذلك إلى العقيدة أم إلى الطبيعة؟