ورأيت المجنونين يدخلان معا فكأنما سدا الباب وسوياه بالبناء، وتركا الغرفة حائطا مصمتا لا باب فيه مما اعتراني من الضيق والحرج؛ وقلت في نفسي: إنه لا مذهب للعقل بين هذين إلا أن يعين كلاهما على صاحبه، فأرى أن أدعهما وأكون أنا أُصرفهما؛ ويا ربما جاء من النوادر في اجتماع مجنونين ما لا يأتي مثله من عقلين يجتمعان على ابتكاره؛ غير أني خشيت أن أكون أنا المجنون بينهما، ثم لا آمن أن يثب أحدهما بالآخر إذا خطرت به الخطرة من شيطانه، فرأيت أن يكون لي ظهير عليهما، إن لم يحق به العون فلا أقل من أن يطول به الصبر. . وكان إلى قريب مني الصديق ا. ش. فأرسلت في طلبه
أما هذا المجنون الثاني الذي جاء به (نابغة القرن العشرين) فقد رأيته من قبل، وهو كالكتاب الذي خلطت صحفه بعضها في بعض فتداخلت وفسد ترتيبها، وانقلب بذلك العلم الذي كان فيها جهلا وتخليطا يثب الكلام بعد كل صفحة إلى صفحة غريبة لا صلة لها بما قبلها ولا ما بعدها
وهو طالب أزهري كان همه أن يصير حافظا كالحفاظ الأقدمين من الرواة الفقهاء، فجعل يستظهر كتابا بعد كتاب ومتنا بعد متن؛ وكانت له أذن واعية فكل ما أفرغ فيها من درس أو حديث أو خبر، نزل منها كالنقر على آلة كاتبة، فينطبع في ذهنه انطباع الكتابة لا تمحى ولا تنسى
ثم التاث هذه اللوثة وهو يحفظ متنا في فقه الشافعي رضي الله عنه، فغبر سنين يتحفظه، كلما انتهى إلى آخره نسيه من أوله؛ فيعود في حفظه وربما أثبت منه الشيء بعد الشيء، ولكنه إذا بلغ الآخر لم يجد معه الأول؛ فلا يزال هذا دأبه لا يمل ولا يجد لهذا العناء معنى، ولا يزال مقبلا على الكتاب يجمعه ثم لا يزال الكتاب يتبدد في ذاكرته.
وترك المعهد الذي هو فيه وتخلى في داره للحفظ وأجمع أن لا يدع هذا المتن أو يحفظه كأن فيه الموضع الذي فارقه عقله عنده، وبذلك رجع المسكين آلة حفظ ليس لها مساك؛ وأصبح كالذي يرفع الماء إلى البحر، ثم يلقيه في البحر، لينزح البحر. . .
وجاء ا. ش فقلت له وأومأت إلى المجنون الأول: هذا نابغة القرن العشرين